معنى ان تكون أمريكيا هو ان تصبح جزءا من المنظومة الاجتماعية الأمريكية المكونة من السلطات الاربع، التشريعية، والتنفيذية والقضائية، كذلك ان تكون جزءا من السلطة الرابعة التي تراقبهم جميعا وهي الصحافة. فمثلا يصبح الاعلامي او الصحافي، أمريكيا، اذا ما اقتنع ان كشف فضيحة للحكومة الأمريكية هو تعريف للمجتمع بفساد السلطة، وبالتالي تأليب الرأي العام ضدها لينتخبوا غيرها. فالصحافة في المقام الاول هي جزء من عملية محكمة او دائرة مغلقة تتكون من الحكومة، التي يفضحها الصحافي، ويتأثر الرأي العام بالمعلومات التي كشفتها الصحافة، فيذهب الى الانتخابات ويغير الحكومة، او يهزم حزب السلطة. هذا المثل كان واضحا عندما كشف الصحافيان الأميركيان بوب ودورد وكارل برنستين فضيحة تجسس نيكسون على الحزب الديمقراطي التي عرفت فيما بعد بفضيحة «ووترجيت»، هذه الفضيحة التي ادت الى اقصاء نيكسون عن السلطة. فضيحة ذاع صيتها في الامصار، حتى ان زيارة نيكسون لمصر استقبلها الشيخ امام بأغنية يقول مطلعها، «شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووترجيت، عملوا لك قيمة وسيمة سلاطين الفول والزيت».. الى آخر الاغنية المعروفة.
واذا ما نظرنا للصحافة في العالم العربي ودورها في اسقاط حكومة، او تغيير رئيس وردية عربات رش الشوارع في اي عاصمة عربية كبرى، نستطيع القول بأن مثل هذا لم يحدث، وحتى لا نكون مغالين هنا، فإني لا اطالب الصحافة العربية باسقاط حكومة، وانما تغيير رئيس وردية عربيات للرش، او حتى شاهبندر الكناسين في واحدة من العواصم العربية. العيب هنا ليس فيما تقدمه الصحافة العربية من معلومات، وانما العيب في ان الصحافة لا تقع داخل المنظومة او الدائرة المغلقة المكونة من حكومة، وصحافة تفضح ممارساتها، فيتأثر الرأي العام، ثم يصوت ضد الحكومة او حزب السلطة، فتتغير الحكومة.
صحافتنا، سواء كانت إلكترونية، مكتوبة او مرئية، تقدم معلومة، لكن هذه المعلومة اما لا يصدقها الرأي العام، او يصدقها ولا حول له ولا قوة تجاهها، وهنا تنقطع الدائرة الكهربائية عند المواطن، التي من المفروض انها توصل بينه وبين الحكومة (حكومة ـ صحافة ـ رأي عام ـ حكومة)، اذن استيراد المؤسسة الصحافية بمسمى السلطة الرابعة، وهي ليست كذلك، حتى لو البسناها صورا إلكترونية، او سودنا صفحاتها كتابة، او لعلعنا في ميكروفوناتها، فهي في النهاية ليست سلطة رابعة، تراقب الحكومة والقضاء والمجلس التشريعي، مهما علت اصواتنا في الحديث عن المسائل المصاحبة، مثل حرية الرأي وحرية التعبير، الى آخر هذا الكلام الخارج عن السياق. وبما ان الصحافة، جملة وتفصيلا، كمؤسسة لا تؤدي دورها المتفق عليه، ضمن سياق ديموقراطي، والمكون، مرة اخرى من (حكومة ـ صحافة ـ رأي عام ـ حكومة)، فأي حديث عن حرية التعبير هو ضرب من الخيال، إلا اذا قبلنا بمحاولة صريحة لتفسير الواقع كسلطة رابعة على الآخر وليس علينا. فمثلا اذا نظرنا الى تغطية الصحافة العربية الإلكترونية والمرئية والمكتوبة، نجد ان عدد الاخبار، ومقالات الرأي، والتحليل السياسي او حتى الموضة، المتعلقة بأمريكا، اكبر بكثير من الموضوعات المحلية المتعلقة بالبلد الموجودة فيه الصحيفة، او الشاشة التلفزيونية، اي ان قدرة صحيفة عربية على اسقاط حكومة الرئيس بوش بكشف فضيحة في سلوك الاحتلال في العراق هي اكثر احتمالا من قدرة هذه الصحيفة على تغيير رئيس وردية عربات الرش في بلد المنشأ صاحب هذه الصحيفة، او المحطة التلفزيونية، ولهذا تكون قدرة «قناة الجزيرة»، مثلا، على تغيير الحكومة الأميركية، لو استطاعت ان تكشف ـ بشكل مهني يرقى الى المصداقية ـ قصة عن عورات الاحتلال، مثل قضية ابو غريب التي كشفتها قناة سي. بي. إس CBS الأمريكية، وتكون قدرة الجزيرة او فرصتها في احداث التغيير في أمريكا اكبر بكثير من قدرتها او فرصتها على تغيير رئيس ادارة الكناسين في الدوحة. الجزيرة تصبح سلطة رابعة بالفعل اذا استطاعت التأثير في الرأي العام في دولة المقر ليحدث تغيير ولو في اصغر ديوان للبلدية، في اي قرية من قطر.
وبما ان الجزيرة تغطي أميركا واحداثها واحوالها، وكذلك اسرائيل وبعض دول الجوار، ولا تغطي شيئا في قطر، اذن هي سلطة رابعة لمراقبة حكومة أميركا، او سلطة رابعة لمراقبة سلوك حكومة اسرائيل، او سلطة رابعة لمراقبة اداء الحكومة وترقب الفساد في الاردن او مصر او غيرها.
اذا كان دور الجزيرة او قناة العربية او حتى صحيفة «الشرق الأوسط» او غيرها هو مراقبة اداء الحكومة الأمريكية، اذن يمكن اعتبارها سلطة رابعة في السياق الأمريكي، ومن هنا تكون قناة الجزيرة، قناة أمريكية، سلطة على أميركا، الا اذا غطت لنا اي شيء عن قطر، او ان تقول لنا ان لا شيء يحدث في قطر، وهذا بالطبع غير مقبول او معقول. فقطر هي مقر القيادة المركزية الأميركية التي شنت منها الحرب على العراق، وهي بؤرة مسرح الاحداث؟! فلماذا لا تغطي هذا؟! ولماذا لا تغطي اي شيء، مثل تغيير رئيس البلدية او حتى وضع سياق لزيارة الرئيس اللبناني اميل لحود لقطر الاخيرة بكشف موضوع الطائرات المسافرة بين لبنان وقطر محملة بأرواح غير مرغوب فيها. اذا قررت الجزيرة انها لا تغطي قطر طواعية، فهي بهذا تخرج نفسها من السياق القطري وتخرج عن الاطار الذي تكون فيه الصحافة سلطة رابعة، وهي بهذا تعلن طواعية انها سلطة رابعة لمراقبة الحكومة الأمريكية.
هذا لا ينطبق بشكل دقيق على «الشرق الاوسط» او «الاهرام»، لأن كلا منهما، على سبيل المثال، لديه عدة صفحات محلية باسم محليات او محافظات او غيرها.
اذا كانت الجزيرة تراقب الأمريكان، واذا كان كثير من كتاب «الشرق الاوسط» يراقبون الأمريكان، وكذلك كتاب كثير من الصحف والشاشات العربية، اذن فصحافتنا هي سلطة رابعة على الأمريكان، فهي صحافة تبتغي ان تكشف فضيحة للحكومة الأمريكية ليتغير الرأي العام الأمريكي فيسقط تلك الحكومة، وفي السياق المشار اليه (حكومة ـ صحافة ـ رأي عام ـ حكومة)، تكون صحافتنا، اذن هي صحافة أمريكية وليست عربية. اذن (إنتو الأمريكان) الى ان تعالجوا، او تتجرأوا على الكتابة عن قضاياكم المحلية.