يقوم الصدق على معنى المطابقة. والمطابقة تعني: توافق ما لدى الإنسان ـ من قول أو فكر أو قصد أو عمل ـ مع الواقع الخارجيّ. الصدق يرتبط ـ إذن ـ بمفهوم الانسجام والعلاقة الصحيحة بالله عزّوجلّ، وبالنفس، وبالعالم. وهذا المعنى ممّا نتعلّمه من خطابٍ للإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في قوله: «الصدق مطابقة المنطق للوضع الإلهيّ. الكذب زوال المنطق عن الوضع الإلهيّ (1)؟!
والإنسان خيط في ضمن النسيج العامّ للوجود، منسجم مع نفسه ومنسجم مع الخيوط الأخرى المجاورة، ومع المنظومة العامّة للنسيج في خصائصها، وفي وجهتها المتّجهه نحو الله سبحانه. والصدق هنا هو مَعْلَم من معالم مسيرة الإنسان المتألّهة نحو الكمال؛ الإنسان الذي يمشي سويّاً على صراط مستقيم، و ما مِن دابّةٍ إلاّ هو آخِذٌ بناصيتها، إنّ ربّي على صراطٍ مستقيم (2).
وبيان الله سبحانه إلى الإنسان ـ الذي هو القرآن الكريم ـ سمّاه الله: صدقاً، وهو أصدقُ من القرآن مطابقة للواقع: واقع الإنسان، وواقع الوجود، وواقع الحياة فمَن أظلَمُ ممّن كذبَ على الله، وكذّبَ بالصِّدقِ إذ جاءه ؟! (3).
واستمداداً من قول أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في المطابقة للوضع الإلهيّ.. ينصّ الراغب الإصفهانيّ ـ لدى حديثه عن مفردات الصدق في القرآن ـ على فكرة المطابقة بين القول والضمير والواقع الخارجيّ، باعتبارها شرطاً لتحقّق صفة الصدق في الإنسان، يقول: «الصدق: مطابقة القولِ الضميرَ والمُخبرَ عنه معاً»(4). ويضرب مثلاً مِن عالَم القرآن الكريم ينفي فيه الله جلّ وعلا خصلة الصدق عمّن طابق قولُه الواقع، لكنّ ضميره ينطوي على اعتقادٍ آخر مغاير، وينسبه إلى رذيلة الكذب القبيح، يقول تعالى في المنافقين: إذا جاءك المنافقون قالوا: نَشهدُ إنّك لَرسولُ الله! واللهُ يَعلمُ إنّكَ لَرسولُه، والله يَشهد إنّ المنافقين لَكاذبون (5).
الصدق هو الخطوة الضروريّة الأولى لحياة الإنسان السَّويّة. وتدريب النفس على الصدق، وعلى التعامل الحقيقي مع الأشياء إنّما هو كالأرض الخصبة التي يبذر فيها الإنسان بذور قوله وعمله، يقول الإمام محمّد الباقر عليه السّلام: «تعلّموا الصدقَ قبل الحديث»(6).
وللصدق القوليّ بعد ذلك خاصيّة التطهير والتزكية والنَّماء للأعمال. إنّه باعث للنقاء والانتشار، للصلاح والبركة، و «مَن صَدَق لسانه زكا عملُه»(7).. فهل أدلّ من هذا على ترابط الإنسان وتواشج قوله وفعله وضميره ؟!
إنّ صدق الإنسان يتحوّل إلى مقياس؛ فلا يَصدُق على طول الخطّ من ينطوي على الغشّ والتزوير. ولا يصدق مَن لم يستمسك بعروة الله الوثقى على طول الطريق؛ فإنّه ما أضمرَ أحد شيئاً ـ كما يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ـ إلاّ ظهر في فَلَتات لسانه وصَفَحات وجهه(
. ومَن تُجرِّب صدقَه في المواقف وفي الاختبارات الصعبة والخيارات الحرجة فهو الصادق، وهو المرء السويّ الذي تجد فيه «الرجل» السالك في جادّة الكمال.
ومن مظاهر التديّن والأعمال العباديّة ما لا ينبئ عن جواهر الرجال، ولكنه يحكي القشرةَ الظاهرة والصبغة الفوقيّة التي تغطّي المضمون الواقعي وتتستّر عليه. ويكون الالتزام بهذه المظاهر والأعمال نابعاً من أسباب أخرى غير إسلاميّة: عُرفيّة، أو نفسيّة. نتعلّم هذه الحقيقة من الإمام الصادق عليه السّلام في قوله التحذيريّ: «لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم؛ فإنّ الرجل ربّما لَهَج بالصلاة والصوم [أي حَرَص عليهما] حتّى لو تركه استوحش، ولكن: اختبروهم بصدق الحديث وأداء الأمانة»(9).