لو تصورنا أن السعادة هي جوهرة ثمينة مخفية في بقعة من بقاع الكون، سنجد أن الإنسان سيشد لها الرحال ويذلل الصعاب ويعبر المحيطات ويتجاوز الحدود من أجل الوصول إليها، وبعد رحلة مرهقة سيكتشف إنه لم يصل ولن يصل إليها أبداً!!
لنحمل حقائب السفر ونرحل مع الراحلين حتى نكتشف صحة هذه المقولة أو بطلانها، ولنرحل أولاً مع الذين يظنون أن الأموال هي سر السعادة، فهؤلاء الناس هم أشخاص عمليون وواقعيون ويتعاملون مع الأشياء وفق مفهوم الربح والخسارة، وهؤلاء سيصلون إلى بغيتهم وهو تحقيق الوفرة المالية بعد سنين طويلة من العناء والعذاب في العمل والإنتاج والسعي الحثيث وسنقف مع هؤلاء في محطتهم الأخيرة التي حققوا بها غايتهم وهي الثراء، وسنسألهم هل اكتفيتم بالحياة؟ وهل حققت لكم الأموال ما كنتم تحتاجون إليه؟ وهل وفرت الأموال لكم السعادة؟
سيقولون أن الأموال حققت جزءاً من طموحاتنا إلا إنه لايمكن شراء كل شيء بالمال.. نحن لانستطيع أن نشتري الحنان والألفة والحب بالمال، ولانستطيع أن نشتري إحترام أبنائنا وودهم بالمال!
لانستطيع أن نشتري الوفاء والأمانة والإخلاص بالمال، إذن ما فائدة المال إذا كان إبنك الذي تعبت عليه وأغدقت عليه المال الكثير لايحبك ولايحترمك؟ وما فائدة المال إذا كنت شاكاً بوفاء صديقك وأمانته؟ وما فائدة المال إذا كان السبب في تخريب علاقتك مع أهلك واخوانك؟
إذا قلنا بأنه يمكن للإنسان أن يكتفي بالمال ويعوض خسارته عن أبنائه وأصدقائه وأهل بيته وعشيرته بالمال، بمعنى أن يعيش هو وماله ويعتزل الدنيا، فيمكن أن نقول بأنه وصل إلى السعادة!! والحال هو عكس ذلك، لأن المال هو وسيلة وليس هدفاً، فلا يعقل أن يلازم المرء المال والثروة ويطلّق كل ما حوله من أشخاص ومبادئ وقيم، ومن يفعل ذلك فقد حفر قبراً لنفسه قبل مماته، فالمال لايجلب الألفة ولا الشرف ولا الكرامة ولا المحبة ولا الإحترام، وحتى أولئك النفر من المتملقين الذين يحترمونه فإنهم لايحترمونه لشخصه وإنما للمال الذي يملكه، فلو إنتزعت منه الثروة لكانوا هم أول الشامتين به.. إذن المال لا يأتي بالسعادة لأن المال وسيلة وليس غاية!!
ومنهم من يبحث عن جوهرة السعادة في اللذات وتحقيق الشهوات وتلبية الرغبات، فيغوصون في مياهها الآسنة ويرتعون ويلعبون حتى يرتوون منها ويشبعون، حتى يصل الأمر بهم إما إلى حد الإشباع الكامل وضعف الرغبة أو يصابون بالملل من تكرار لايسد نهمهم الحقيقي ولا حاجاتهم الروحية والمعنوية، فالولوغ في مثل هذه المساقط لاتؤدي سوى إلى تلبية حاجة الجسد، أما حاجة الروح فتبقى معلقة ومعطلة، ولكي يسكت هذا المرء صوت الروح ينساق وراء المسكرات والمخدرات ليطفأ ضوء عقله ويقمع ضميره الداخلي.
والإسلام لايمنع من تلبية حاجات الجسد بكل أشكالها وأنواعها، لكنه يوصي بالتوازن بين حاجات الجسد وحاجات الروح، فمثلما يكون الإنسان بحاجة إلى الطعام والشراب، فكذلك الروح بحاجة إلى الإحسان وإلى البر وإلى صفاة الخير، وإن عدم تلبية هذه الحاجة سيؤدي إلى إختلال التوازن ما بين الجسد والروح، وإذا كانت السعادة تتحقق من خلال تلبية حاجات الجسد مثل الشهوات واللذات، لما وجدنا عمليات الإنتحار هي الأكثر شيوعاً بين المشاهير والفنانين وخاصة في المجتمعات الغربية، هؤلاء الذين أطلقوا العنان لشهواتهم وأهوائهم كيفما سارت وكيفما إتجهت، إنهم يعيشون ظروفاً نفسية صعبة، حيث لايجدون متسعاً لإنطلاق الروح، ولانقصد بذلك أن المجتمعات الشرقية تعيش بأفضل حالٍ من تلك المجتمعات الغربية، لأن هذه المجتمعات تعيش أزمات ومشاكل قد تكون أكبر وأعظم إلا إنها تختلف بطبيعتها عن مشاكل وأزمات المجتمعات الأخرى.
وبعض الناس يرى في السعادة أنها تعني إعتزال الناس وكبت رغبات الجسد وإنطلاقة الروح في العبادة والإنعزال في كهف مظلم من أجل التفرد بالحياة وصنع الإرادة، وهذا أيضاً منطق قائم على الكبت والخروج عن المألوف في أن الإنسان كائن إجتماعي وهو بحاجة إلى التواصل مع أبناء البشر، لذلك فهو بالطبع لا يحقق السعادة للبشرية لأنه منهج يقوم على سجن الجسد وإطلاق الروح.
فما هي السعادة إذن وماذا تعني وكيف الحصول على جوهرتها؟
السعادة كما هي في مخيلة الإنسان وتصوراته التي يظنها بأنها تعني تحقيق إرادته وأن تكون مشيئته سارية في كل شيء، وتنقاد الدنيا لإرادته: أن يمنع الموت عن نفسه وعن مقربيه، كأمه لأنها لوماتت سيتألم ويتوجع لموتها وسينغص ذلك عليه معيشته وتحقيق سعادته!! وأنه يكون قادراً على تحقيق كل ما يحلم به من أن يعيش في قصر كبير فيه أنهر من عسل أو لبن وأنه يستطيع تحقيق حلمه هذا بمجرد أن يشاء ذلك ويرغب به!!، بل إنه ما يحقق سعادته هو أن يحوز على كل القدرات والإمكانات للتأثير في الأشياء وتحويلها لتصب في مصلحته، هذا هو الذي يحقق سعادة الإنسان وليس الإلتذاذ بمشتهيات الدنيا التي لاتأتي إلاّ مع المنغّصات والآلام والأحزان، فلا يفرح المرء فرحاً الاّ ورافقه حزن.
إن السعادة تعني تحقيق طموحات الإنسان الكبيرة والصغيرة، وهذا لايكون إلا مع وجود قدرات فائقة تفوق تصورات المادة ومعها يستطيع الإنسان أن يحقق كل رغباته وطموحاته، وهذا الأمر لايتحقق في الدنيا!!
إذن نفهم من ذلك أن كلمة السعادة ليست من كلمات الدنيا، وأن جوهرتها لم تختفي في بقعة من بقاعها، لأن حقيقة الدنيا قائمة على أساس الألم والراحة، الحزن والفرح، الفقر والغنى، المرض والصحة، الحياة والموت، الحب والبغض، الخير والشر، الظلم والعدل.. فأين هي جوهرة السعادة؟
إنها موجودة في عالم آخر، في عالم يكون فيه الإنسان خالداً لايموت، لايمرض ولايتوجع ولايحزن ولايجوع ولايظلم.
هناك حيث الإنسان يمتلك كل القدرات على إستخدام إرادته ومشيئته وتحقيق كل طموحاته وأهدافه، هناك حيث يمتلك المرء قوة أربعين رجلاً فتلتذ كل خلية من بدنه بألوان الطعام واللذائذ التي لاتنغصها الآلام والأحزان، هناك حيث يكون الإنسان ملكاً يأمر فيطاع ويطبق قوانين العدل في مملكته، فيستتب الأمن والسلام، هناك حيث تتحقق الأحلام الوردية: قصر منيف ونهر من عسل وآخر من لبن، وحور عين حسان لم يخلق مثلهن إنس ولاجان، هناك ستجدون السعادة فلا تبحثوا عنها في مكان آخر.