على الرغم من الانتقادات التي وجهها بعض العراقيين الى مجلس الحكم الانتقالي الذي تم تشكيله في الاسبوع الماضي في العراق، الا ان ايجابية وأهمية هذا المجلس وصفته الوطنية والتمثيلية تستوجب من كافة العراقيين الوطنيين المخلصين ان يدعموه ويلتفوا حوله، وعجبي من الاصوات العربية والاسلامية التي سارعت الى انتقاد المجلس من خارج العراق والى تأليب العراقيين ضده. فلقد وصف مجلس الحكم الانتقالي بأنه «مجلس مفبرك» ومجلس يضم اشخاصا لا يعرفون العراق بسبب غيابهم الطويل عنه، «ومجلس تابع لقيادة الاحتلال»، وغير ذلك من الاوصاف والاتهامات التي اما ان تقلل من أهمية المجلس وتشكك في مصداقيته الوطنية والتمثيلية أو تنعته بالخيانة والخضوع للاحتلال.
ان هذه الاصوات والمصالح العربية والاسلامية غير العراقية التي بدأت بمحاربة مجلس الحكم الانتقالي العراقي منذ لحظة ولادته الاولى، ولم تعطه اي فرصة للتحرك، هذه الاصوات على اختلاف مشاربها، القومية واليسارية والاسلامية تعمل سواء بقصد أو بدون قصد على دفع العراق نحو التجزئة، ونحو حروب وصراعات اهلية دامية، وكلما بقي العراق يعيش في ظل حالة الفوضى وانعدام الامن الحالية وبدون حكومة وطنية مركزية، ادى ذلك الى اطالة فترة الهيمنة الامريكية والبريطانية العسكرية والسياسية على العراق.
الكمال لله وحده، وقد تكون بعض الانتقادات الموجهة لمجلس الحكم الانتقالي صحيحة، ولكن ابجديات السياسة الوطنية العراقية، في الوقت الحاضر تستلزم دعم وتأييد مجلس الحكم العراقي الانتقالي. فكلما قويت الارضية الوطنية التي يقف عليها هذا المجلس تمكن من تحقيق المكاسب الملموسة للشعب العراقي. وحقيقة ان صدام حسين يعارض هذا المجلس ويحاربه تكفي لكي تؤكد للعراقيين ان مجلس الحكم الانتقالي هو مجلس وطني عراقي. وان اسرع طريقة للتخلص من الهيمنة الامريكية على العراق تتمثل في الالتفاف حول هذا المجلس، وليس في محاربته وسحب البساط من تحت قدميه.
ويمكننا فهم وجود معارضة عراقية وطنية لهذا المجلس، وخير ما يقال لهذه المعارضة، هو تذكيرها بأن هذا المجلس هو مجرد مجلس انتقالي وظيفته الرئيسية هي اعداد الدستور والتمهيد لانتخاب اول حكومة وطنية ديمقراطية في تاريخ العراق المعاصر. ولكي يتمكن المجلس من انجاز هذه المهمة الصعبة، فالمطلوب من كافة الفئات الوطنية مساعدته وليس محاربته. وتهون مسألة معارضة هذا المجلس الانتقالي عندما تأتي من العراقيين انفسهم سواء في داخل العراق أو خارجه. ولكن يصعب قبول معارضة مجلس الحكم هذا من أي تيارات سياسية عربية واسلامية في خارج العراق. فبعض الذين انتقدوا مجلس الحكم الانتقالي في العراق هم مثقفون ومحللون سياسيون ورجال دين وزعماء سياسيون وقادة محليون في لبنان والجزائر والسودان وايران وفلسطين وغيرها من المجتمعات العربية والاسلامية. ولكي ندرك اشكالية انتقادهم لمجلس الحكم العراقي، وتشكيكهم في وطنيته، يكفي ان نتخيل وجود مثقفين وسياسيين عراقيين يجيزون لانفسهم انتقاد جهود ونتائج المفاوضات والحوارات الوطنية في لبنان والسودان والجزائر وفلسطين. فهل سيقبل الوطنيون المعنيون بقضاياهم الوطنية في هذه الدول بهذا التدخل؟ لا اعتقد ذلك، ولهذا فالمطلوب اليوم بالمقابل، من جميع المثقفين والمفكرين السياسيين العرب والمسلمين، كما طالبهم بعض اعضاء مجلس الحكم العراقي ان «يكفوا عن العراق».
وكما يؤكد عقلاء العرب دائما على ان القضية الفلسطينية هي شأن الفلسطينيين أولا فإن القضية العراقية اليوم ينبغي ان تعني العراقيين بالمقام الاول. ولو حاول اي مثقف عراقي من منطلق عروبي أو اسلامي ان يطلب من حماس عدم الالتزام بخريطة الطريق وبرفض الهدنة مع اسرائيل، ودعا الى استمرار العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين لانتقده غالبية المثقفين الفلسطينيين والعرب، على اساس ان «أهل مكة ادرى بشعابها». ونفس الموقف ينبغي ان يتخذ اليوم تجاه اي مثقف او اعلامي عربي أو اسلامي يندفع وراء انتقاد ومهاجمة مجلس الحكم العراقي. ويعيد موقف بعض المثقفين العرب من مجلس الحكم الانتقالي في العراق الى الاذهان، خلاف كنعان مكية مع ادوارد سعيد حول مسألة دعم وتأييد بعض المثقفين العرب لصدام حسين بطريقة مباشرة وغير مباشرة، لمجرد تبادله العداء مع امريكا، وذلك بالرغم من قتله واضطهاده لابناء شعبه. والمسألة في الحقيقة هي ابعد بكثير من خلاف مكية مع ادوارد سعيد، فالكثير من الوطنيين العراقيين، يجدون صعوبة بالغة في فهم أو قبول موقف المثقفين العرب المؤيدين لصدام حسين الدكتاتور الطاغية القاتل والظالم، فأكثر من اضر بالقضية الفلسطينية هو صدام حسين، واكثر من اساء الى التضامن العربي والاسلامي هو صدام حسين، واكثر من ساهم في تشويه صورة العرب والمسلمين عند الآخرين هو صدام حسين، واضافة الى الاضرار الاقتصادية والتنموية التي اصابت العراق نتيجة سياساته الفاشلة والمتهورة فلقد كان صدام حسين من اكثر الدكتاتوريين في العالم ظلما وقتلا واضطهادا لشعبه. ولذلك فلا توجد حقيقة اي مبررات سياسية او اخلاقية تسمح لأي مثقف عربي بالتعاطف مع صدام حسين. ويبدو ان المثقفين العرب الذين ينتقدون اليوم مجلس الحكم العراقي الانتقالي قد نصبوا انفسهم أوصياء على العراق. فما دام العراق تحت الاحتلال فمن حقهم هم ـ كما يعتقدون ـ ان يتحدثوا باسم العراق. وينبغي على العراقيين ان يقبلوا هذه الوصاية طائعين. ولكن من الواضح ان للعراقيين رأياً آخر يقولون فيه لكل من يحاول فرض الوصاية عليهم (لا سمع ولا طاعة ولا وصاية). وان مجرد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في العراق يفتح المجال امام اثارة بعض التساؤلات عن طبيعة عمليات المقاومة العراقية وهوية الفئات التي تنفذها، خاصة ان بعض اعضاء مجلس الحكم انتقدوا عمليات الهجوم على القوات الامريكية واتهموا اتباع صدام بتنفيذها. وفي اول اجتماع له قرر مجلس الحكم الانتقالي في بغداد اعتبار يوم سقوط النظام السابق في التاسع من ابريل (نيسان) عيدا وطنيا للعراقيين وعطلة رسمية فيه. ومن شأن هذا القرار ان يؤدي الى توسيع الفجوة بين الرؤية العربية والرؤية الوطنية العراقية لاحداث العراق، ويجعل الرؤية العراقية اقرب الى الرؤية الامريكية. فمنذ اليوم الاول للحرب والعرب يصفون الامريكيين بالمعتدين والمحتلين، بينما يصف الامريكيون انفسهم بالمحررين الذين انقذوا الشعب العراقي من ظلم وطغيان صدام. واذا كان قرار مجلس الحكم العراقي يعبر عن ارادة غالبية العراقيين، فمن الواضح ان الشعب العراقي يعتبر الامريكيين محررين وليسوا محتلين أو معتدين كما يصفهم العرب.
يقف العراق اليوم عند مفترق طرق سياسية صعبة وخطيرة، ولن يكون بإمكان واشنطن تغيير هوية العراق وانتمائه العربي والاسلامي. ولهذا فإن الحكمة والعقلانية والواقعية السياسية تستوجب دعم العرب لمجلس الحكم الانتقالي في العراق وعدم محاربته. فهو نواة الحكومة العراقية الوطنية التي سوف يتعامل معها العرب في المستقبل. وان مجلسا يضم العرب والاكراد، السنة والشيعة، المسلمين والمسيحيين في عراق جديد، يستحق ان يُدعم وان يعطى الفرصة الكافية لكي يقف على قدميه، ويواجه التحديات التي تعترض طريقه، وان أهل العراق اليوم هم بحاجة ماسة الى دعم عربي شامل لوحدتهم الوطنية، واسوأ ما يمكن ان يقدمه العرب وايران للعراقيين في الوقت الحاضر هو التنافس على استقطاب الجماعات والفئات العراقية المختلفة. فمن شأن عملية الاستقطاب هذه أن تؤدي الى تجزئة العراق وان تجسد بقاءه تحت الاحتلال.