يقال إن سكان مصر، في عام ثورة 23 يوليو 1952 كان حوالي 20 مليون نسمة. وفي ظل رئاسة الرئيس مبارك تضاعف، تقريباً، عدد سكان مصر. وقد سمعت، هذا الأسبوع، من تلفزيون مصر بالذات، أن هناك أكثر من عشرين مليون إنسان يقومون كل صباح ويخرجون من بيوتهم (إذا كانوا يسكنون في بيوت!) للبحث عن أي عمل.
ببساطة، أن الزيادة السكانية أكبر بكثير من النمو الاقتصادي، هذا يعني ليس فقط أن الدولة عاجزة عن ضمان الأعمال، وضمان الطعام لكل فم، بل يعني أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسكني في المجتمع يزداد صعوبة من عام إلى آخر.
هل صدفة، في ظل هذه الظروف أن مستوى التعليم يتدهور؟ هل صدفة، في ظل هذه الظروف، أن "الدولة" تغمض عينيها ولا تقيم في الريف البعيد مدرسة أو مدارس في كل قرية؟ هل صدفة أن إحصاء أجرته إحدى الصحف دلَّ أن أكثر سكان إحدى القرى لا يعرف مَن كان رئيساً للدولة قبل الرئيس مبارك ولا يعرف إطلاقاً اسم جمال عبد الناصر!
حيث ينتشر الفقر والجهل تنتشر الظلامية الدينية، وتنتشر الخزعبلات. ويصبح بإمكان كل مشعوذ أن يُنَصِّب نفسه وصياً على الشعب ووصياً أيضاً على الدين. حمى الله الدين من كل المشعوذين!
إن المد الأصولي الديني يبدو قوياً ومتزايد القوة. وهناك مَن يقول إنه لو جرت انتخابات ديمقراطية حقاً في مصر، بدون تزييف، وبدون تدخل الدولة لصالح الرئيس مبارك، لكان من الممكن أن تنتصر حركة "الإخوان المسلمين". ولقد رأينا كيف أن الحركة الإسلامية كادت تأخذ الحكم في الجزائر لولا الانقلاب "غير الديمقراطي"للجيش. وكلنا نشاهد كيف خرجت الأصولية الدينية المستخدمة لأبشع أشكال الإرهاب في العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين.
ما يجب أن ندركه إدراكاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفكرياً هو أن أصل الأزمة العربية هو-العجز عن التطور الاقتصادي-الاجتماعي والتطور العلمي الذي يخدم ويعجِّل التطور الاقتصادي ويقود إلى عملية نهوض اقتصادي واجتماعي يتحول إلى مشروع قومي عام.
عندما كانت الدول الاستعمارية تحكم الدول العربية حكماً مباشراً كنا نقول: الاستعمار مسؤول عن كل مآسينا. وعندما استقلت الدول العربية صارت الأنظمة العربية تقول إن إسرائيل مسؤولة عن التخلف العربي، وصارت الأنظمة تحاول إطعام الشعب أكذوبة "قومية"، بأن توظيف طاقات الوطن في بناء الذات لمواجهة إسرائيل (المزعومة!) هو السبب في الصعوبات الاقتصادية. ولكن هذه الأنظمة القومية العربية لم تشرح لنا كيف تمكنت إسرائيل أن تبني طاقة اقتصادية وعلمية ضخمة، بالذات، في سنوات الصراع مع العالم العربي كله؟
وهذه الأنظمة لم تشرح لنا كيف تمكنت إسرائيل أن تنتصر عسكرياً على كل الدول العربية في حرب حزيران1967؟
منذ نصف قرن وأكثر ونحن نهرب من الحقيقة، نهرب من حقيقة الحقائق. إن الأنظمة التي قامت بعد "الاستقلال" لم تضع مشروعاً إقتصادياً-اجتماعياً للتنمية القومية، بل وضعت مشروعاً للمحافظة، على بقائها في الحكم!
ليس هناك أي نظام عربي اعتبر نفسه فعلاً، أداة للنهوض بالأمة ولتسيير المجتمع قدماً، بل رأى كل نظام بقاءه في الحكم هدفاً بحد ذاته. وأن الشعب هو "أداة" في خدمة النظام وليس النظام أداة في خدمة الشعب.
وحيث تغيب الديمقراطية وتغيب الانتخابات الحرة، وتبقى السلطة في الحكم عاماً بعد عام وعشرة أعوام بعد عشرة أعوام، وبالتالي تقيم نظاماً جمهورياً "وراثياً"، ما الغرابة أن السلطة تتحول إلى عصابة نهب، والشعب يتحول إلى سجناء محكومين بالسجن بلا محاكمة؟!
إن "تطور" الأصولية الدينية في العالمين العربي والإسلامي هو ردة فعل حتمية، ردة فعل احتجاجية، أحياناً يائسة وأحياناً إرهابية، ضد النهب المكشوف والمطلق للوطن.
الدين ليس عدو التقدم، والدين ليس هو العقبة في وجه التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الدين يمكن أن يكون سمحاً، ويمكن أن يكون يسراً لا عسراً، وفي كل الأحوال، من حق كل إنسان أن يكون متديناً أو غير متدين، المهم أن يكون مواطناً منتجاً، نافعاً، محافظاً على القانون، يشارك في الهم الاجتماعي والوطني العام.
إن المشكلة القومية في العالم العربي لا تكمن في التطرف الديني، ولكن التطرف الديني هو نتيجة للمشكلة الحقيقية الأكبر- وهي غياب الدولة العصرية الديمقراطية، التي تقود عملية تخطيط المجتمع، اقتصادياً وإدارياً وثقافة وتعليماً وأمناً قومياً، بمشاركة حقيقية من الشعب وبإمكانية واقعية ودستورية لتداول السلطة سلمياً، فالفاشل يذهب والقادر على النجاح يأتي مكانه.
ولعل الكارثة الثانية المثيرة حتّى إلى الضحك أن الطبقة الحاكمة تهدد الشعب الآن، بإمكانية سيطرة الأصولية الإسلامية، إذا هي سقطت. كأنما الرئيس مبارك يقول للجياع في مصر: عليكم حماية نظامي لأن القادم أسوأ!!!
إن الأمة العربية تعيش أزمة مُرَكَّبة لم تعش مثلها منذ سقوط بغداد، أقصد السقوط الأول، وليس السقوط الصدّامي، نحن أمّة لا تعيش في أزمة فقط، بل تعيش في أزمة تتفاقم سنة بعد أخرى، وقد تتحول إلى كارثة. ونحن نخدع أنفسنا، وننتظر الكارثة الكبرى!!
إن القوى الوطنية والعقلانية والديمقراطية في أمتنا بحاجة إلى أن تدرك أن الصراع ليس حول "الحجاب" يكون أو لا يكون، بل حول الأمة، تكون أو لا تكون. وكل الطاقات المتمسكة بالحياة والحرية والديمقراطية والتقدم الإنساني بحاجة إلى بناء مشروع الاقتصاد في مركزه، يعتمد النهضة الاقتصادية الاجتماعية وتوظيف جهد خاص للثورة التعليمية في ارتباط مع الاقتصاد. إذا دارت العجلة، علمياً واقتصادياً فإن كل جوانب الحياة تسير في اتجاه العقلنة والعصرنة، وتسير أيضاً في اتجاه بناء الأمة العصرية، وتسير أيضاً في اتجاه السلام العاقل بين التدين غير الاستفزازي والعلمانية غير الإستفزازية، بين التآلف والتكامل بين العصرنة والتراث القومي والتاريخي.
التنظيمات الصغيرة، تظل حلقات تتكلم ولكنها عاجزة عن التغيير. إن المطلوب هو مشروع شامل قادر أن يوحِّد كل القوى على تباينها واختلافها، المتفقة على حتمية النهضة الاقتصادية والعلمية والتعليمية والإدارية وترشيد النظام السياسي العربي.
يخطيء مَن يعتقد أن هناك بدائل كثيرة وأن هناك إمكانية أن يظل الوضع على حاله، بدون تغيير. إن العالم العربي لم يعد بإمكانه أن يتحمل أكثر نظام الإرهاب والفساد والتخلف الذي يخنق شعوب أمتنا العربية. فإمّا النهضة الاقتصادية-الاجتماعية-الديمقراطية، وإمّا...الكارثة!