كل مَن يطالع الصحافة العبرية في إسرائيل، يومياً، هذه الأيام، ليس بحاجة إلى عقل استراتيجي خارق حتّى يصل إلى استنتاج قاطع بأن ما يدور ليس "مناوشات" على الحدود. ليس "تسخيناً" موقتاً على الحدود في أعقاب حادثة، بل هو، من وجهة النظر الاستراتيجية الإسرائيلية، حرب شاملة ضد لبنان.
القيادة السياسية الإسرائيلية والقيادة العسكرية والاستخبارية، تشكو منذ مدة من تراجع "قوة الردع" الإسرائيلية وتشكو من أنّ المنظمات التي تسميها إسرائيل "إرهابية" تقوم بعمليات جَسورة وتطوِّر تدريبها ومهاراتها. وكان البرهان الأخير على ذلك اختطاف "حماس" جندياً إسرائيلياً ونقله إلى قطاع غزة ووضعه في مخبأ "أمين" ودعوة إسرائيل لاستعادته مقابل تحرير أسرى فلسطينيين، وبعد ذلك العملية التي قام بها نشطاء "حزب الله" على الحدود اللبنانية فاختطفوا (أو أسروا) جنديين.
وتقول الصحافة الإسرائيلية إنّ صواريخ "حزب الله" متطورة أكثر من السابق مما جعلها تصل إلى صفد ونهاريا وحيفا وكرميئيل وطبريا.
لا نعتقد أن التوازن الاستراتيجي لمصلحة إسرائيل قد تصدع فعلاً، ولكن إسرائيل تريد استخدام ما تعتقد أنه تغيُّر استراتيجي لغير مصلحتها، لكي تضرب بسرعة وبعنف. وهذا ما حدث.
ببساطة: إسرائيل ردّت على عمليتين محدودتين بحرب على لبنان شملت حصاراً بحرياً وبرياً وجوياً وقصفاً مُكثّفا وحشياً لكل البنية التحتية اللبنانية، أملاً في استعادة سريعة للهيبة المهزوزة ولاستعادة "قوة الردع".
هناك أسئلة يجب أن تُطرح بصوت عالٍ وبقوة: لماذا يجب أن يكون "حزب الله" دولة داخل دولة؟ كيف يكون شريكاً في الحكومة بوزيرين، ويبادر بحرب ضد دولة بدون علم الدولة اللبنانية وحكومتها؟ هل كل فصيل مِن حقِّه توريط البلاد في حرب؟ وهل مسألة إعادة الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين مهمة الدولة أم مهمة يتطوع مَن يشاء لتنفيذها؟ هل الدمار الرهيب الذي حلَّ بلبنان الآن يُصلحه "حزب الله"، ومَن يقفون وراءه؟ هل خسارة مليارات الدولارات من السياحة هي لا شيء؟ هل التدمير للبنى التحتية في لبنان هو لا شيء؟
ونسمح لأنفسنا أن نٍسأل أسئلة أُخرى ولو كانت محرجة: لماذا لم تُطلق سوريا منذ نهاية حرب 1967 وحرب أُكتوبر 1973 رصاصة واحدة لتحرير الجولان السوري المحتل؟ لماذا لا تقوم في سوريا فصائل على شاكلة "حزب الله"، لتحرير الأرض السورية المحتلة؟ بل لماذا لم تحرك سوريا ساكناً ردّاً على الهجمة الإسرائيلية البشعة والشاملة ضد لبنان؟ هل التحرير هو "مهمة" "حزب الله" وليس مُهمة سوريا الأُسد؟
إننا نقول ، بكل صراحة ووضوح، إنَّ بقاء "حزب الله" دولة داخل دولة هو ضرب للسيادة اللبنانية، وسيطرة "حزب الله" في جنوب لبنان، بينما الجيش النظامي غير موجود هي صفعة سياسية للسيادة الوطنية اللبنانية. ونحن نلاحظ أنّ "حزب الله" بسياسته وتبعيته لدول خارجية (إيران وسوريا) يعرقل المسيرة الوطنية الديموقراطية في لبنان، كما يعرقل مسيرة الإعمار والتطوير الديموقراطي فيه.
يُقال الآن إنّه بعد أن وقعت الواقعة يجب توجيه التنديد والمقاومة للإعتداء الإسرائيلي هذا صحيح. ولكن لا يمكن إغلاق ملف حزب الله الذي أوصل لبنان إلى هذه المحنة وهذا الدمار. وإذا كان النظام العربي العام هزيلاً، فهل يجب أن يدفع لبنان، وحده، ثمناً باهظاً لمغامرات هذا الحزب، التي قد تكون خدمة لمآرب سورية ومآرب إيرانية، أكثر مما هي نضال قومي ووطني لبناني؟
هل بعد كارثة فلسطين نتيجة الخيانة والغباء، يأتي الآن دور تضييع لبنان؟
إننا نتوقف عن طرح الأسئلة القاسية ونسأل: هل العالم العربي مجتمعاً قادر الآن على حسم الصراع التاريخي مع إسرائيل حسماً عسكرياً لمصلحة فلسطين والعرب؟
ألم تُقرر الدول العربية في قمة بيروت نهجاً عاماً مشتركاً ومشروعاً للسلام بإجماع كل الدول العربية بما فيها لبنان؟
أليس المطلوب أن يقوم العالم العربي بجهدٍ سياسي وديبلوماسي مستخدماً كل المقدرات، بما فيها الاقتصادية لكسب دعم عالمي للقضايا العربية العادلة؟
إنّ النزق لا يجوز أن يُوجِّه العمل السياسي لأيّة دولة. ونقول، ويا للاسف، إن ما يدفع "حزب الله" أكثر من نزق، وأخطر من النزق، أنّه ينفذ استراتيجية لإخراج النظامين السوري والإيراني من عزلتهما الدولية، ومن يدفع ثمن لهذا النهج هو لبنان وشعب لبنان.
الواقع العربي العام يبدو رهيباً ويدعو للقلق والانقباض. وللخروج من هذا المأزق لا حاجة للنزق والمغامرات الانتحارية بل هناك حاجة إلى تنسيق عربي عام وعمل عربي عام لوقف التدهور، وتحقيق المكاسب الممكنة.