هل الملائكة مخلوقة؟ قد يتبادر إلى الذهن أنّ الملائكة ليست مخلوقة و هذا تصوّر خاطئ إنساق إليه المسيحيّون فتوهّموا أنّ روح القُدُس غير مخلوق و أنّما هو جزءٌ من الله تعالى و يؤدّي ذلك إلى أنّ جبريل عليه السلام هو الله. و على العكس من ذلك فإنّ الإسلام يُعلن صراحة أنّ الملائكة مخلوقة, فقد جاء في سورة الصّافات:
(الصافات:151)
و يعني ذلك أنّ الملائكة مخلوقة و أنّ خالقها هو الله تبارك و تعالى. و هنا قد يًعنّ للبعض أن يسأل: هل هم خالدون أم ميّتون؟ ثمّ إنّ المفروض أنّ كلّ مخلوق لا بدّ من أن يموت و هذه مسألة أُخرى.
وعلى كلّ حال فالجواب أنّه لمّا كانت روح الإنسان محفوظة فبالمثل تظلّ الملائكة باقية أو ربّما يفنى بعضها أو يبقى بعضها محفوظًا. و نُشير بهذه المناسبة إلى أنّ بعض المذاهب الأخرى ترى خلاف هذا الذي ذكرناه, فاليهود يعتقدون أنّ كلّ إلهامٍ جديد يأتي به ألوفٌ من الملائكة الجدد ثمّ يهلكون بعد انتهاء مهمّتهم. أماّ المذهب الزرادشتيّ فإنّه يقول بعدم فناء الملائكة و هو قولُ يتفق و ما قلنا آنفًا.
رؤية الملائكة
و النقطة الثانية عن حقيقة الملائكة هي ما إذا كان من الممكن رؤيتها أم لا. و الواقع أنّه يستحيل على الإنسان رؤية الملائكة بالعين الطبيعيّة لأنّها مخلوقات روحانيّة, و قد جاء في القرآن الكريم ردًّا على مطالبة الكفّار إنزال ملكين من السماء
(الأنعام - 10)
أي أنّه يستحيل رؤية الملائكة على حقيقتها بالعين البشريّة فإنّما يكون ذلك في هيئة أُخرى خلاف وجودهم الحقيقيّ أمّا رؤيتهم على صورتهم الحقيقيّة فلا تكون إلّا بالعين الروحانيّة.
رُبَّ سائلٍ يسأل: لماذا لا تنزل الملائكة في شبه إنسان كي يراهم الناس؟ و الجواب على ذلك أنّه لو نزل مَلَكٌ في صورة إنسان لكان موضع شُبهة و لَشكَّ الناس في أمره هل هو ملَك أو إنسان..و بذلك يظلّ ما في قلوبهم من شك موجودًا كما هو و بالتالي يشكّون أيضًا في ما إذا كان ما يقول هذا الرجل هو كلام ربّ العالمين أم هو كلام الرجل نفسه, و من ثُمّ لا فائدة من نزول الملائكة بحيث يراهم الناس بعيونهم الماديّة لأنّ الشكّ و الاعتراض يظلان قائمين.
نوع الملائكة
و النقطة الثالثة الجديرة بالذكر هي أنّ هذه المخلوقات ليست ذكورًا و لا إناثًا بدليل الآية:
(الصّافات: 151)
و قد سبق الاستشهاد بها في مجالٍ آخر في الفقرة الأولى. و ليس المقصود هنا نفي الأنوثة عن الملائكة و إثبات الذكورة. فحَسَب سياق الكلام يتّضح أنّ الآية تتضمّن تسفيه زعم من قالوا أنّ الملائكة إناث فجاء الردّ هنا مؤكّدًا نفي هذا الزعم مبيّنًا أنّ القول بأنّ الملائكة إناث أو ذكور لا أساس و لا سند له لأنّهم لم يشهدوا خلقهم, ثمّ إنّ ذلك التنوّع لا يكون إلّا في الأشياء الماديّة و أمّا في الأمور الروحانيّة فلا تذكير و لا تأنيث. و بالمثل ينبغي ألّا يُفهم بأنّ روح الذكر مذكّرة و روح الأنثى مؤنّثة ذلك لأنّ التذكير و التأنيث إنّما هو في شكل الوعاء أي الجسم و أمّا ما يحتويه أي الروح فشيءٌ آخر.
طبقات الملائكة
و الحقيقة الرابعة التي نعرفها عن الملائكة هي أنّهم ثلاث طبقات و ليسوا من قسم أو نوعٍ واحد, و يُشير إلى ذلك قوله تبارك و تعالى:
(غافر:
و يتبيّن من هذه الآية أن ّفئات الملائكة ثلاث: إثنتان بدلالة النصّ و الثالثة بإشارة النصّ. فالنوع الأولّ يحملون العرش, و النوع الثاني هُم من حول العرش, وأمّا النوع الثالث فهم الذين تُبعث معهم الأحكام الشرعيّة إلى الأرض. أي أنّ هناك طبقة من الملائكة دون الذي من حول العرش. و يُؤيّد ذلك الأحاديث الشريفة إذْ يَثبت منها أنّ فريقًا من الملائكة مًخصّصون لأشياء مختلفة. و مِثل هذا المفهوم موجود عند الزرادشتيين فهم يقولون بوجود سبعة ملائكة, و ما من شيءٍ في هذ الحياة الدنيا إلّا و له علاقة بهؤلاء السبعة.
و كذا ورد في القرآن الكريم أنّ عرش ربّ العالمين يحمله يوم القيامة ثمانية (سورة الحاقّة – الآية 18) و لا يعني ذلك أنّ هناك إيوانًا من الذهب و الفضّة و إنّما ترمي الآية إلى تصوير وصفٍ أسمى يُظهر أُلوهيّة الله تعالى. ففي العالم الثاني – أي عالم القيامة – يتجلّى ذلك بالملائكة الثمانية. و لكن في هذا العالم كما هو ثابت من الاستدلال يتجلّى من سبعة ملائكة. و حاصل القول أن ّالملائكة تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ أو أنواع: ألاوّل يحمل العرش, و الثاني أدنى درجة و هو كمعاون للنوع الأوّل و لكنّه من المقرّبين أيضًا إذ أنّه حول العرش, و الثالث هو الطبقة الدُنيا و يقوم بمختلف الأعمال. و تِبْعًا لقوله تعالى:
(المُدّثِّر : 32)
فإنّه يستحيل عد أو حصر هذه الطبقة من الملائكة. هذا و من الثابت من أقوال كثير من الأنبياء أنّ كُلّ شيءٍ يحدث بفعل الملائكة.
عِصْمة الملائكة
و الأمر الخامس الجدير بمعرفته عن الملائكة هو أنّها لا ترتكب ذنبًا أو معصية وعلى العكس من الإنسان فإن ّفيه مادة تجعله قابلًا لارتكاب الخطيئة. فقد يرفض كلام الأنبياء بل قد يُنكر وجود الله تعالى و قد يتمادى في المعصية حتّى أنّه قد يُسيئ بالقول إلى ذات الله تبارك و تعالى. أمّا الملائكة فليست فيهم تلك المادة و لم يُخلقوا قادرين على فعل شيء من هذا, و إذا وازنّا بينهم و بين الناس فإنّ دائرة عملهم محدودة, و أمّا الإنسان فإنّه يخرج أحيانًا عن نطاق هذه الدائرة. و قد وُصِفت هذ الناحية من خَلْقِهم في قوله تبارك و تعالى
(التحريم : 7)
طاعة الملائكة و قدرتها
ليس من طبيعة الملائكة ألّا تعصى الله تعالى فحَسْب, بل إنها تواظب على الطاعة و تدأب على العمل. فعدم عصيان أوامر الله تعالى شيء و عدم تنفيذ أوامره جلّ و علا و عدم القيام بها شيءٌ آخر. و بيان ذلك أنّك قد تأمر شخصًا بأن يحمل شيئًا ما إلّا أنّه لضعفه لا يقوى على أن يفعل ذلك. ففي هذه الحال لا يُسمّى ذلك عصيانًا إنّما هو عجز أو عدم مقدرة. أمّا إذا كان الشخص يقدر على حِمْل ذلك الشيء و لم يفعل ففي هذه الحال يُسمّى ذلك عصيانًا. فقوله تبارك و تعالى كما جاء بالآية ( ...لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ ) يُشير إلى أنّ في الملائكة استعدادًا أو قابلية لأن يقدروا على فِعل كلّ ما يؤمرون به, فهم ليسوا كالنّاس منهم من يميل إلى الطاعة و منهم من يميل إلى العصيان. ثمّ إنّ الإنسان قد يرغب في فعل شيءٍ ما و لكنّه قد يعجز أحيانًا عن النهوض به كما لو أراد أن يُصلّي واقفًا و لكنّ المرض أو كِبَر السِّن قد يضطره إلى أداء الصلاة و هو جالس.
صفة الملائكة من حيث التأثّر و التأثير
و الأمر السابع هو أنّ الملائكة لا تتأثّر بمن حولها من مؤثّراتٍ و لا تستجيب لمؤثّرٍ من الخارج أو الغير, أمّا باقي المخلوقات فمهما كانت قوّتها فإنّها عُرضة للوقوع تحت تأثير الغير. إلّا أنّه بالنسبة للإنسان فهناك حالات, ذلك أنّ بعض الناس يتأثّرون بالغير و البعض الآخر يُقاوم. فلأنبياء يتأثّرون مثلًا بالحسنات و الطيّبات, ففي الحرب مثلًا قد يشتر ك النبيّ في المعركة و يتأثّر بها كبشَر و لكنّه محفوظٌ من مالمؤثّرات السيئة الشريرة. أمّا الملائكة فهم محفوظون دائمًا من المؤثّرات. و قد أُشير إلى ذلك في سورة التحريم
( ...عَلَيْها ملائِكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ.. )[الآية 7] فهذه من صفة الملائكة: غِلاظٌ شِداد أي لا يؤثّر فيهم شيءٌ مطلقًا.
نعم, إذا أُمِروا أن يُؤثِّروا في الغير فعلوا ذلك, و هذا ليس بمقدور الإنسان. فقد يُمكنه أن يؤثّر على الغير تارةً, و قد يعجز عن ذلك تارةً أُخرى. فالإنسان من حيث الصفات يمكنه أن يفعل أو يقتبس شيئًا و لكن ليس من جميع الوجوه. و قد جاء في القرآن المجيد
(الفتح : 30)
و يتبيّن من ذلك أن ّالمؤمنين أشدّاء أيضًا كالملائكة و لكن على الكُفّار فقط أمّا فيما بينهم فهم رُحماء يتأثّر بعضهم ببعض. و جاء في القرآن المجيد
(التوبة : 73)
أي حاربهم و جاهدهم و لا تتأثّر بهم. و حاصل القول أنّ المؤمن على وجه العموم, يُؤثّر في الغير و لكن لا يناله تأثير الغير و لا يتمكّن منه إلّا في بعض الأُمور, أمّا الملائكة فلا يتأثّرون من أي وجهٍ من الوجوه.
عدد الملائكة
أمّا عدد الملائكة فإنّه غير محدّد و لا معلوم بالنسبة للنّاس, و في ذلك يقول القرآن الكريم:
(المُدّثِّر: 32)
درجات الملائكة
نجد أنّ بين الملائكة أيضًا من هم رؤساء و من هم مرؤسون. و ليس هذا لأنّ بعضهم كبير و بعضهم صغير بل لأنّ كلّاً منهم يُختص بعملٍ معيّن في موضعٍ معيّن. قال تعالى:
(السجدة: 12)
و قال تعالى أيضًا
(الأنعام: 94)
و قال جلّ و علا:
(النِّساء: 98)
فإذا ما تدّبرنا هذه الآيات الثلاث معًا يبدو من الآية الأولى أنّ قبض أرواح جميع النّاس مُسندٌ إلى ملَكٍ واحد. و هذا لا يتناقض بل يدلّ بوضوح على أنّ الموت موكول إلى ملَكٍ واحد و أنّ هذا الملَك له مساعدون كثيرون يطيعونه و يقومون بقبض الأرواح. و ما دام هناك تدرّج في مسألة الموت فبالمثل نستنتج أيضًا وجود سلسلة ملائكيّة في غير ذلك من المسائل تبدأ بملَكٍ أكبر ثمّ تتدرّج أو تنحدر إلى مُساعدين و تابعين.