فبالتدبر في عالم المنام يستطيع كل إنسان أن يدرك أن هذه السنّة جارية أيضا في الآخرة. فكما أن المنام يحدث فينا تغييراً معيناً.. ويرينا الحالة الروحية في صورة مجسمة.. كذلك يحدث في ذلك العالم، فتتمثل يومئذ أعمالُنا ونتائجها في صور محسوسة، ويلوح على وجوهنا بوضوح كلُّ ما نكون قد استصحبناه من هذا العالم في صورة خفيّة. وكما أن النائم يوقن فيما يراه من تمثلات شتى بأنها أمور حقيقية، ولا يتوهم أبداً أنها تمثلات، كذلك يحدث في ذلك العالم، بل الواقع أن الله سوف يظهر قدرته الجديدة يومئذ بواسطة التمثلات.. لأنه تعالى هو القدرة الكاملة. إذن فلو لم نُسمِّ تلك الأمور تمثلاتٍ، بل قلنا إنها خلق جديد تمَّ بقدرته سبحانه وتعالى.. لكان هذا القول هو الأصح والحق والواقع. يقول سبحانه وتعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (السجدة: 18).. يعني لا تدري أية نفسٍ صالحةٍ النعيمَ الذي أُخفي لها في عالم الآخرة. لقد وصف الله جميع نعم الآخرة بأنها مخفيّة عنا.. لا مثال لها في النعم الدنيوية. والواضح أن نعم الدنيا غير خفية علينا، فإننا نعرف اللبن والرُّمان والعنب ونأكل منها دوماً. فيتبين من ذلك أن نعم العالم الثاني هي غيرُ ما في هذا العالم، وإنما تشترك مع هذه في الاسم فقط. فمن ظن أن الجنَّة عبارة عن موجودات هذه الدنيا فلم يفهم من القرآن حرفاً.
يقول سيدنا ومولانا ونبينا في شرح الآية المذكورة.. وهو يصف الجنة ونعيمها: "أعدّ الله لعباده الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بَشر".. مع أننا نرى نِعم الدنيا بأعيننا، ونسمع عنها بآذاننا، وهي تمر بخواطرنا. فما دام الله ورسوله يصفان نعيم الفردوس بكونه شيئاً غريباً.. فنكون إذن قد انحرفنا عن القرآن انحرافاً كبيراً لو ظننَّا أن في الجنَّة أيضاً لبناً ماديا كهذا الذي يُحلب من البقر والجاموس.. وكأنما يكون فيها قطعان من حيوانات حلوبة! وكأن النحل تكون قد بنت هنالك في الأشجار كثيرا من الخلايا، والملائكة يبحثون عنها ويشتارون منها العسل ويصبونه في الأنهار! هل هناك أية علاقة بين أفكار كهذه وبين ذلك التعليم السامي الذي ينطوي على آيات عديدة تقول إن الدنيا لم تر تلك الأشياءَ أبدا، وأنها تنير الروح وتزيد معرفةً بالله، وأنها أغذية روحانية. هذه الأغذية - وإن كانت قد صُوِّرت لنا بصورة مادية - إلا أن الله قد نبَّه أيضا أن منبعها هو الروح والصدق.
ويجب ألاّ ينخدع أحد بقوله تعالى في القرآن المجيد:
{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها} (البقرة: 26).. أي بشِّر المؤمنين الذين يقومون بأعمال صالحة، ولا يوجد فيهم ذرة من الفساد.. أنهم ورثة الجنة التي تجري خلالها الأنهار. إنهم كلما ينالون من ثمار تلك الأشجار التي قد نالوا منها في الدنيا أيضا.. يقولون إنها نفس الثمار التي قد أوتيناها من قبل، لأنهم سيجدون هذه الثمار شبيهةً بالثمار الأولى.
فلو ظن أحدٌ أن الثمار الأولى تعني نِعماً مادية من هذه الدنيا فلا شك أن هذا خطأ فاحش.. وأنه مخالف تماما لمفهوم الآية ومغاير لمعناها البديهي. وإنما المراد الإلهي من الآية أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. قد غرسوا بأيديهم جنةً.. أشجارُها الإيمان.. وأنهارُها الأعمال الصالحة، وسيأكلون من ثمار هذه الجنَّة نفسها في الآخرة، وتكون ثمارها يومئذ أبرزَ صورةً وأحلى طعماً. وبما أنهم يكونون قد أكلوا من هذه الثمار من قبل في الدنيا بصورة روحانية، لذلك سوف يعرفون تلك الثمرات في الدار الآخرة، ويقولون: يبدو أنها نفس الثمار التي سبق أن أكلناها، حيث يجدونها مشابهة لغذائهم الأول.
فالآية المذكورة تبين بصراحة أن الذين كانوا في الحياة الدنيا يتغذون بغذاء المحبة الإلهية.. سيُرْزقون هذا الغذاء يوم الآخرة رزقاً مجسماً. وبما أنهم يكونون قد ذاقوا لذة الحب والوداد.. وعرفوا كيفيتها، لذلك تتذكر أرواحهم ذلك الزمن الذي كانوا يناجون فيه حبيبَهم الحقيقي بحب ووَلَه، وكانوا يستمتعون بذكراه، منفردين في الزوايا والخلوات وظلمات الليل. فلا ذكر هنا للأغذية المادية أبدا.
وإن خطر ببال أحد أنه ما دام العارفون قد رُزقوا من هذا الغذاء الروحاني في الدنيا وكانوا يعرفونه.. فكيف يصح وصفُ نعيم الآخرة بأنه ما لم يرَه أحد أو لم يسمع عنه أحد أو ما مرّ بقلب إنسان.. فذلك يستلزم تناقضاً ظاهراً بين الآيتين المذكورتين؟
فالجواب: إنما يتحقق التناقض إذا كان المقصود من كلمات الآية نعيمَ الدنيا، ولكن ليس المراد هنا نعيمَ الدنيا.. فكل ما يتلقاه العارف هنا بطريق العرفان إنما هو في الحقيقة من النعيم الأخروي، الذي يوهب له منه شيء ههنا على سبيل العيِّنة ترغيباً وتشويقاً.
اعلموا أن الإنسان الرباني ليس من هذه الدنيا، ومن أجل ذلك تمقته الدنيا؛ ولكنه من السماء.. فلذلك يُعطى النعمةَ السماوية. الإنسان الدنيوي ينال نعم الدنيا، والإنسان السماوي يظفر بالنعم السماوية. فالحق كل الحق.. أن النعيم السماوي قد أُخفي تماما عن أسماع الدنيا وأبصارها وقلوبها.. ولكن الذي طرأ الموت على حياته الدنيا.. وسُقِي بالطريقة الروحانية تلك الكأسَ التي سوف يُسقاها في الآخرة بصورة جسمانية، سيتذكر شُربه الأول عندما تقدم له نفس الكأس. ومن الحق أيضا أنه سوف يجد أن باصِرة الدنيا وسامعتَها كانتا في غفلة عن ذلك النعيم، ولكن بما أنه كان في الدنيا، وإنْ لم يكن منها، لذلك سوف يشهد أن النعيم الأخروي ليس من نعم الدنيا، ولم تر عينُه في الدنيا مثل هذه النعمة، ولم تطرق سمعه، ولم تخطر على قلبه، وإنما رأى نماذجَ تلك النعمة، ولكنها ما كانت من هذه الدنيا، وإنما كانت بمثابة بشير بالعالم الأخروي، وكانت تمتُّ إلى الآخرة لا إلى الدنيا.
المعارف القرآنية الثلاث عن عالم المعاد
ولنتذكر أيضا كقاعدة أن القرآن المجيد قد جعل للحالات التي سوف نمر بها بعد الموت ثلاث فترات، وهي معارف ثلاث قرآنية عن عالم المعاد.. نفصِّل كل واحدة منها على حدة فيما يلي:
المعرفة الأولى
يقول القرآن الكريم مرة بعد أخرى.. أن عالم الآخرة ليس شيئًا جديدًا.. بل إن جميعَ مظاهره هي آثار هذه الحياة الدنيا وظلالُها كما يقول الله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا} (الإسراء: 14).. أي أننا ربطنا برقبة كلِّ إنسان آثارَ أعماله، وأننا سوف نُظهر له هذه الآثار الخفية يوم القيامة، وسوف نريه إياها في شكل كتاب مفتوح.
وليكن معلوما عن كلمة "الطائر" الواردة في الآية أن معناها الأصلي هو الطير، ثم استُعيرَت لمعنى العمل أيضًا.. ذلك لأن العمل، خيراً كان أو شراً، يطير ويختفي بعد وقوعه كمثل الطير.. وتنعدم مشقته أو لذته بعد قليل، ويخلف في القلب أثَرَه لطيفا أو كثيفا.
يؤكد القرآن المجيد أن كلَّ عمل يترك أثرا خفيّاً في نفس عامله، وأن الله يقابل بعمل منه هذا العملَ، سواء كان خيراً أو شراً، فلا يَدَع ذلك العملَ ليضيع، بل تُرسَم آثارُه على القلب والوجه والعيون والأيدي والأرجل. وهذه الرسوم هي صحيفة الأعمال الخفية التي تنكشف جليًّا في الحياة الثانية.
ويخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل الجنَّة في موضع آخر بقوله: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} (الحديد: 13)..أي أن نور إيمانهم الذي يحظون به في شكل خفيٍّ سوف يُرى يوم الآخرة وهو يسعى أمامهم وعلى يمينهم.
وفي موضع آخر يخاطب الله الفجَّارَ يقوله:
(التكاثر)
أي أن كثرة الأهواء المادية والرغبات الدنيوية قد شغلتكم عن ابتغاء الحياة الآخرة، حتى وقعتم في القبور. فإيَّاكم وحُبَّ الدنيا، فسوف تعلمون أنه لا خير في حب الدنيا. وأؤكد لكم أن لا خير في حبها. ولو أنكم علمتم علمَ اليقين لرأيتم الجحيمَ في هذه الدنيا نفسها. ثم إنكم سوف ترونها رؤية اليقين في عالم البرزخ. ثم إنكم يوم حشْر الأجساد تعلمونها حق اليقين.. لا بالمشاهدة فقط، بل بالحال الواقع، إذ تؤاخَذون بشدة، ويغشاكم العذاب كاملاً.
للحديث بقية.......................