فعلى مستوى هذا البعد تبدأ إنسانية الإنسان بالظهور ، ومن هنا يبدأ يحترم غيره ويشعر بهموم مَنْ حوله ، ويتعامل مع غيره . وبعبارة جامعة: تبدأ الحياة المعنوية في ...
البعد المعنوي:
يتجلـّى هذا البعد في الحياة الاجتماعية للإنسان ، حيث نجد ثمّة معنى للعلاقات الاقتصادية و الحقوقية و الثقافية ... فعلى مستوى هذا البعد تبدأ إنسانية الإنسان بالظهور ، ومن هنا يبدأ يحترم غيره ويشعر بهموم مَنْ حوله ، ويتعامل مع غيره .
وبعبارة جامعة: تبدأ الحياة المعنوية في الإنسان بالظهور، حيث تتجلـّى فيه صفة مميّزة تتمثل في ما يسمّى : التربية .
وإذا تأملـّنا جيّداً في الإنسان على مستوى هذا البعد ، نجده يسعى - من خلال توفير هذه الأجواء من تربية و قوانين وحقوق متبادلة - نحو هدفين أساسيين :
الأوّل: المال والمقام ( الجاه ) .
الثاني: الفِرار من القصاص .
فهو يسعى نحو الهدفِ الأوّل حتى يوفر لنفسه سعة في التصرّف وكسب قدرٍ أكبر من النفوذ لرفع حاجياته ونقائصه ، ويسعى لتوفير الهدف الثاني للحفاظ على ما اكتسبه من مالٍ وجاه . والآن نأتي لنرى ما هو موقف القرآن من هذه الحالة في الإنسان .
عند الرجوع إلى الرؤية القرآنية ، نجد الهدفين مقبولين من جهة ومرفوضين من جهة أخرى ، فهما مقبولان بوصفهما وسيلة لغاية أسمى وأشرف ، ومردودان بوصفهما غاية وهدفاً ، فمثلاً يقول القرآن فيما يتصل بالقصاص : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون َ) ، فالحياة في الآية الشريفة منوطة بالقصاص ، أي أنّ الحياة لا تبقى ولا تدوم إلاّ بإقامة الحدود والقصاص . لكن السؤال الأساسي هو "أيّة حياة هي التي تبقى بإقامة القصاص والحدود ؟ " ، فإذا كان الجواب هو : الحياة الطبيعية المتمثـِّلة في الأكل والشرب والنكاح والتفاخر... ، فهي حياة لهوٍ ولعبٍ كما ينعتها بذلك القرآن الكريم ، فلا قيمة لهذه الحياة في الرؤية القرآنية. وأمّا إذا كان المقصود من الحياة حياة أخرى "الحياة الطيبة":( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ) النحل/97، فنِعم الحياة هي .
والحاصل أنّ الإنسانَ ، وإن تجاوز بهذا البعد طبيعته ووصل إلى حياة تسودها الحقوق والفنون والتربية ومقتضيات الحضارة عامة ، لكنّه لم يصل إلى حقيقَتِه الواقعية التي تتمثل في الإنسان الإلهي والمثالي .
البعد الإلهي:
والآن، وبعدما تبيّن لنا معنى الإنسان في البعدين السابقين، ورأينا أنّ القرآنَ لا يرضى للإنسان أن يمكث ويبقى واقفاً على هذا المستوى ، نأتي ونسأل : هل ثمّة مستوى آخر للإنسان في الرؤية القرآنية يختلف عن البعدين السالفين ؟
لكي تتضح الإجابة على السؤال السابق ، نعرض لأقسام النفس الإنسانية كما تصوّرها الرؤية القرآنية :
أ - النفس الأمّارة : المتمثـّلة في البعد الطبيعي الذي تناولنا مواصفاته في البحوث السابقة. وهذه النفس خاضعة مقهورة تحت تأثير الغرائز، وبخاصة القُوة الشهوية والغضبية ، ولا يهمّها إلاّ ذاتها تجذب بالقوة الشهوية ما ينسجم معها و تدفع بالقوة الغضبية ما لا يلائمها .
ب- النفس اللوّامة : وهي عبارة عن تجلٍّ من تجليات الوجدان ، و بفضل هذه القُوة يشعر الإنسان بالسرور إذا قام بفعل حسن ، وبالحزن إذا قام بفعل قبيح . والإنسان ، على مستوى هذه النفس ، لا يمثـّل تلك الحقيقة التي يصورها القرآن ، أي البعد الإلهي الذي بفضله يتصل الإنسان بالحق تعالى الكمال المطلق .
ج- النفس المطمئِنّة: تعد النفس المطمئِنّة أعلى مقام يصل إليه الإنسان في حركته نحو الكمال و الرشد ، يقول تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) الفجر/ 27-30.
والسؤال المطروح هو ما هو العامل الأساسي الذي بموجبه يصل الإنسان إلى هذا الكمال (النفس المطمئنة) ؟
ثمّة بُعدٌ آخر في حياة الإنسان تبرزه الرؤية القرآنية يتمثل في ( حقيقة الإيمان ) ، وبفضل هذه البعد ينجذب الإنسان إلى الغيب ويتصل بالله تعالى الكمال المطلق .
وإليك مواصفات هذا البعد في حياة الإنسان كما تبيّنها وتشرّحها الرؤية القرآنية :
1- الإيمان نور إلهي : قال تعالى : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة/ 257.
نلمح في الآية المباركة حقيقة رائعة ، وهي أنّ "حقيقة الإيمان" ملازمة للخروج من الظلمة إلى النورانية ، أيّة نورانية ؟ نورانية تتجلى في :
أ- التربية .
ب- الأخلاق والسلوك .
ج- العلاقات .
د- المعاشرة .
والأهم من ذلك كله النورانية في الفكرة والمعتقد .
وبعبارة ثانية :
النورانية في الصراط - الشريعة السّـَمحة - والمبدأ والمقصد ، وهذا الأمر عبارة أخرى عن : التوحيد والمعَاد ، والطريق : النبوة ولوازمها .
2- الإيمان والمودّة : قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرّحمنُ وُدًّا ) مريم/96 .
ومن آثار الإيمان - كما نلمح ذلك في الآية المباركة- المحبة المتمثلة في :
أ- محبة الله لعباده المؤمنين .
ب- محبة عباده له تعالى .
ج- محبة الناس بعضهم لبعض .
والنتيجة - التي نحصل عليها من الآثار الناتجة عن حقيقة الإيمان - هي : أنّ كل حركة وكل تعلق لا يتمحور حول هذه المحبة ولا يورث هذه المودة فهو بطلان في بطلان .
3- الإيمان والتقوى والعلم : قال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ... ) البقرة/282 ، تربط الآية الكريمة بين الإيمان والعلم الذي يمثـّل الاتصال بالعلم المطلق .
4- الإيمان ضد الخوف والحزن : قال تعالى : ( فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون َ) الأنعام/48 . تربط الآية الكريمة بين الإيمان وعدم الخوف والحزن ، وهذا من روائع البيانات القرآنية.