الآن تتصاعد حدة الاشتباك بين الشيعة والسنة في العراق، ووصل الامر الى حد التصفيات المتبادلة، التي ذكرت الانباء ان الشرطة صارت طرفا فيها منحازة ضد السنة. ومن أسف ان تلك التصفيات طالت عناصر النخبة من علماء واساتذة بالجامعات، بل هناك من يقول بأن التركيز كان على تلك العناصر من البداية. الامر الذي اريد به اضعاف بنية الطرف الآخر، وكان من جراء ذلك التصعيد ان اقام بعض اهل السنة تكتلا اجتمعت فيه فصائلهم المختلفة لمواجهة «المعسكر» الشيعي. وفي مؤتمر القيادات الدينية السنية عقد يوم الجمعة الماضي ـ حضره اكثر من الف من علمائهم ـ قرروا اغلاق المساجد بالعراق لمدة ثلاثة ايام احتجاجا على استهدافهم بالقتل والاعتقال، كما طالبوا بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في عمليات القتل والتعذيب التي يتعرض لها المعتقلون، وباقالة وزير الداخلية، لاتهامه بالتراخي او التواطؤ فيما جرى.
فيما كان ذلك موقف القيادات السنية، فإن الاصداء التي اعلنت على الاقل كانت كالتالي: « وصل الى بغداد روبرت زوليك مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، في مسعى للتهدئة والتحذير من مغبة توسيع نطاق الفتنة.
« تحرك السيد مقتدى الصدر في محاولة للتوسط بين هيئة علماء المسلمين وبين قيادة المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بالعراق، الذي تعد منظمة «بدر» جناحه العسكري وهي المنظمة التي تنسب الى عناصرها عمليات التصفية والاعتقال التي وجهت ضد اهل السنة.
« اصدر المتحدث باسم الامين العام للجامعة العربية بيانا اعرب فيه عن «القلق» ازاء ما يجري في العراق، وعبر بعض وزراء الخارجية العرب عن «قلق» مماثل. وكذلك فعل بيان لمنظمة المؤتمر الاسلامي.
اذا صحت تلك المعلومات فهي تعني ان الأميركيين «تحركوا»، وان وساطة الصدر تعد بدورها نوعا من التحرك، اما العواصم العربية والمنظمة الاسلامية، فإنها «تكلمت» ولم تتحرك! ـ هي تعني ايضا ان الموقف العربي والاسلامي هو التعبير الادنى والحلقة الاضعف في المشهد. وان شيءت الدقة فقل ان العرب والمسلمين كانوا هم الطرف الغائب، الذي تخلى عن مسؤوليته المفترضة، واكتفى بالمراقبة عن بعد ـ هل هذا معقول؟
كنت قد كتبت قبل حين مقالة في هذا المكان قلت فيها انه ليس كل الشيعة موالين للاحتلال، ولا كل السنة «ارهابيين»، وهو معنى يجب ان نستحضره في اللحظة الراهنة. واضيف اليه انني لا اريد ان اصف الحاصل في العراق باعتباره صراعا بين السنة والشيعة، ولكنه حتى الآن نوع من تصفية حسابات بين فئات محدودة من المتعصبين على الجانبين. وكل المطلوب هو محاصرة الاشتباك قدر الامكان، والحيلولة من دون تأثر عامة الناس بتلك الحسابات.
ولعلي لا اذهب بعيدا في التفاؤل اذا قلت ان الجسم الوطني العراقي، لا يزال متماسكا، وان ثمة شريحة واسعة من النخبة العراقية تجاوزت الحساسيات والمرارات المذهبية والعرقية، وعلى ادراك كاف بأن مشكلة العراق الاولى تتمثل في الاحتلال وازلامه الذين فرضوا على الشعب العراقي فرضا. ولكن هؤلاء يجري التعتيم عليهم، ولا تذكرهم التقارير الصحافية، لأنهم الاقل صخبا، شأن كل الوطنيين العقلاء في كل مكان، ولأن وسائل الاعلام تبحث عن الخبر المثير، اذا افترضنا فيها البراءة والتنزه عن الهوى، فإن مراسليها يركضون وراء مظان الفتنة ولا يلتفتون الى ما يعتصم به اهل المسؤولية والرصافة والحكمة.
لقد اتيح لي خلال الاسابيع الماضية ان التقي في استنبول الشيخ حارث ضاري رئيس هيئة علماء المسلمين، كما شاركت في حوار عبر فضائية «الجزيرة» مع ممثلين للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية بالعراق، وعلى هامش مؤتمر اخير عقد بالكويت، ناقشت الامر مع آية الله محمد علي التسخيري، وثيق الصلة بالمرجعية الشيعية في النجف، وبصفته امينا عاما لمجمع التقريب بين المذاهب في طهران، ومما سمعت، وجدت ان لكل طرف قائمة طويلة من الوقائع والشواهد التي تحمل الطرف الآخر المسؤولية عن الحوادث المفجعة التي حصلت، وسمعت من آية الله التسخيري ترحيبا قويا بالمشاركة في اي جهد يسعى لاطفاء نار الفتنة.
الملاحظة الجديرة بالنظر فيما سمعت ان ممثلي اهل السنة يتحدثون عن ممارسات منظمة «بدر» بوجه أخص، في سياق الاشارة الى المسؤولية عما يجري. في الوقت ذاته فإن من تحدثت اليهم من الشيعة يشيرون الى ابو مصعب الزرقاوي وجماعته، والبيان الذي نسب اليه مسوغا قتال الشيعة وقياداتهم، فكلا الطرفين لا يستبعدان اسهاما من جبهات اخرى مجهولة من مصلحتها اشعال نار الفتنة في البلاد، واشغال العراقيين عن قضية الاحتلال، او اقناعهم بضرورة استمراره لضمان استقرار العراق والحيلولة من دون انفراط عقده. واذ لا ينبغي ان نلغي دور الطرف او الاطراف المجهولة، إلا ان القدر المعلوم له دلالته ومغزاه. فاذا صح ان لمنظمة «بدر» دورا في تصفية بعض اهل السنة والاستيلاء على مساجدهم، واذا صح ان للزرقاوي مسؤوليته عن تصفية بعض الشيعة او استهداف حسينياتهم، فإن الكفتين ينبغي ألا تتعادلا، لسبب جوهري هو ان منظمة «بدر» ذراع لمجلس الثورة الاسلامية الذي هو شريك اساسي في الحكومة العراقية القائمة، ووزير الداخلية من اعضائها البارزين. اما الزرقاوي وجماعته فهم شذوذ في الصف السني، ناهيك عن انهم لا علاقة لهم بالسلطة وادواتها.
ارجو ان تلاحظ انني قلت في ملاحظتي انه «اذا صحت» التقارير والانباء التي تحدثت عن مسؤولية هذا الطرف او ذاك، لأنني لست في موقع يسمح لي بالقطع في المسألة. وهو ما يجعلني اشدد على اهمية «تقصي الحقائق» في الموضوع، لأن ذلك التقصي هو مفتاح الادراك الصحيح للمشهد، الامر الذي يدعونا الى تأييد مطلب علماء السنة الذي اعلن يوم الجمعة الماضي اذ بدون ذلك سيظل كل طرف يلقي بالمسؤولية على الآخر، وسندور في حلقة مفرغة، في الوقت الذي تتسع فيه دائرة الفتنة وتتجمع اسبابها منذرة بما هو اخطر وأسوأ.
من يعلق الجرس في رقبة القط؟ لأول وهلة يخطر لي ان منظمة المؤتمر الاسلامي هي المرشح الاول للنهوض بذلك الدور، ولكن اتصور ان ارتباطها بالحكومات ومواقفها وحساباتها قد يكبلها ويحول من دون تمكينها من ذلك. ولذلك لا اجد كيانا مستقلا يمكن ان ينهض بتلك المسؤولية، سوى اتحاد «علماء المسلمين»، الذي يجتمع في اطاره عدد وفير من ممثلي الفرق الاسلامية، وفي المقدمة منها اهل السنة والشيعة.
قبل اكثر من عام اوفدت المنظمة العربية لحقوق الانسان لجنة الى بغداد لتقصي حقائق الانتهاكات هناك، واعدت تقريرا نشر مضمونه على الملأ في حينه، وكان ذلك عملا ممتازا لا ريب، وليتنا نتلقى تقريرا مماثلا يفي بحقوق الاسلام علينا في المشهد الراهن، وليته يحدد لنا على وجه الدقة ما اذا كان الامر اشتباكا بين جماعات من الشيعة والسنة، أم ان ذلك الاشتباك يخفي في طياته صراعا بين انصار الاحتلال والمدافعين عن حرية العراق وكرامته.
لقد شعرت بوخز شديد حين رأيت في صحف الاثنين الماضي صورة وزير الخارجية العراقي هوشار زيباري وهو يصافح بنيامين اليعازر وزير البيئة الاسرائيلي في مؤتمر بالاردن، وقلت اذا كان «العراق الجديد» يمد يده لاسرائيل على ذلك النحو، فلماذا يتقاعس علماء السنة والشيعة عن ان يمدوا ايديهم الى بعضهم البعض، قبل ان يغرق الطرفان ي الطوفان «الجديدة؟