مع كل ما تعكسه حرب غزة من انقسامات فلسطينية- فلسطينية، وعربية - عربية، ستشهد الساحتان الفلسطينية والعربية المزيد من الغليان بعد انتهاء الحرب. وقد بدأ المحللون السياسيون والخبراء في شؤون الشرق الاوسط بتوقع نتائج هذه الحرب فلسطينياً، عربياً، وإقليمياً.
أولاً: لا يمكن التغاضي عن أوجه الشبه بين الوضعين اللبناني عقب حرب يوليو (تموز) 2006، والوضع الفلسطيني ما بعد حرب غزة، إذ يبدو أن المواجهة حتمية بين حماس ومحمود عباس، تشبه الى حد كبير المواجهة بين حزب الله والرئيس فؤاد السنيورة وفريق 14 آذار بعد العدوان على لبنان. كما يطلق بعض الخبراء توقعات أكثر شؤما حول مناوشات عسكرية أهلية فلسطينية، أجّلتها الحرب على غزة ولم تخمدها. فحماس ستسعى الى استثمار صمودها اليوم أمام إسرائيل سياسيا بعد الحرب. ولأن حماس حركة «إرهابية» بنظر إسرائيل والولايات المتحدة، سيكون مطلوباً من السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها محمود عباس، التصدي لها، ووضع العقبات أمام مشاركتها في الحكم، الأمر الذي سيدفع بحماس وفتح نحو الاصطدام.
ثانياً: يتوقع الخبراء من جهة أخرى تخلّي اسرائيل عن محمود عباس، بعد تصريحاته ضدها في أثناء حربها المستمرة حتى الآن على غزة. وقد حاول من خلال هذه التصريحات التنصل من المفاوضات مع إسرائيل، وذلك ليتبرأ من دماء الغزاويين. كما أنه من المتوقع أن تقنع إدارة أوباما إسرائيل باستبدال أبو مازن بالأسير مروان البرغوثي، وهو المتمسك بالثوابت الفلسطينية والمقبول أوروبياً.
ثالثاً: يرى السفير الأميركي السابق في الأمم المتحدة، والخبير حالياً في معهد «إنتربرايز» الاميركي جون بولتون، أن حرب غزة قضت نهائياً على إمكانية إقامة دولتين جنباً الى جنب، مقترحاً حل «الدول الثلاث»، عبر إرجاع غزة الى مصر، والضفة الغربية الى الأردن.
ويعتقد بولتون أن منظمة التحرير الفلسطينية القديمة فشلت في إنشاء سلطة فلسطينية، وأن أي حلّ يقوم على أساس دولتين تعيشان بسلام الى جوار بعضهما، واحدة تحكمها السلطة الفلسطينية والأخرى إسرائيل، لن يبصر النور.
ويضيف بولتون أن فكرة حل «الدول الثلاث» لن تعجب مصر والأردن كثيراً، لأنهما كانتا تسعيان لنفض أيديهما من القضية الفلسطينية. ويكمن الحل في دعم هاتين الدولتين أي مصر والأردن، مالياً وسياسياً من الجامعة العربية والغرب. كما يضيف أن على إسرائيل أن تقبل بهذا الحل لأنها لا ترغب ولا تقدر أصلاً على تحمّل تلك المسؤوليات بمفردها.
ويرى بولتون أن هذا الحل سيحسّن الوضع الاقتصادي في غزة، وسيقلل ما أسماه التهديدات الموجهة ضد الاستقرار المصري من قبل حماس والإخوان المسلمين، وسيخلّص إسرائيل من هواجسها الأمنية بعيدة المدى تجاه الضفة، وهي أكثر تعقيداً من غزة.
ويدعو بولتون الى التخلي عن النقاشات المعقدة المتعلقة بالوضع القانوني القائم لغزة والضفة، في سبيل تسهيل تطبيق هذا الحل.
رابعاً: يتوقع المراقبون ازدياد الخلافات والاختلافات بين الدول العربية من جهة، وداخل كل دولة من جهة أخرى، أي بين العرب «المعتدلين» والعرب «الممانعين». وقد تجلّى هذا الأمر في عدم عقد قمة عربية طارئة إثر بدء العدوان، واجتياح التظاهرات المنددة بالعدوان للمدن العربية وتصدي قوات الأمن المصرية والأردنية والسعودية لهذه التظاهرات، وتخوف الأنظمة العربية من مواجهة حركات المعارضة الداخلية التي اشتد تيارها على إثر عدوان غزة.
خامساً: لا شك أن صمود حماس وإفشالها حتى الآن الهجوم البري الإسرائيلي، سيؤدي كما أدى إنجاز حزب الله العام 2006، الى تعزيز معسكر الحركات الإسلامية، بدءاً من حركة حماس، مروراً بالإخوان المسلمين في مصر، وجبهة العمل الإسلامي في الأردن، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، واتحاد الطلبة الاسلإمي في باكستان، والعدل والإحسان في المغرب، والحزب الإسلامي في العراق، والجماعة الإسلامية في لبنان.
سادساً: إن نتائج الحرب القائمة حاليا، تمثل مؤشرا أساسيا على المرحلة المقبلة للمنطقة والخارطة السياسية الآتية. فالدول ستشهد تغيّرا في الأحجام والأدوار والنفوذ:
- تعاظم دور تركيا بعدما كرّست نفسها كوسيط بين العرب وإسرائيل، وكلاعب أساسي في الشأن العراقي.
- استرجاع كل من مصر والسعودية لدورهما الدبلوماسي في المنطقة إذا ما نجحتا في تمرير مبادرة، أو حل ما، بعدما رفضت المبادرة المصرية الأولى.
- تراجع دور إيران في حال فشل حماس عسكرياً، وتقدمه وتصاعده في حال استمرار صمودها.
- مصير المواجهة المقبلة بين كل من حزب الله وإسرائيل، يعتمد الى حد كبير على نتائج حرب غزة. فإن خرجت إسرائيل فاشلة وعاجزة عن تحقيق أهدافها، فإن المواجهة ستؤجل الى مدى بعيد. أما في حال تمكن إسرائيل من كسر شوكة حماس، فإن المواجهة تصبح حتمية بينها وبين لبنان. وقد عبر أولمرت صراحة عن ذلك بقوله للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي: «اليوم حماس، وغدا حزب الله».
- بالنسبة إلى سورية، فإن صمود حماس يعني حفاظها على دورها عربيا وإقليميا ودوليا، واستمرار الانفتاح عليها، بل والخضوع لشروطها. أما في حال ضعف حماس، فإن سورية ستجد نفسها في موقف محرج، وقد تضطر للعودة الى المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، والتي كانت أوقفتها على إثر العدوان الإسرائيلي على غزة.
إذن، تقف حرب غزة اليوم على مفترق طرق بين مشروعي «الاعتدال» و«الممانعة». وحدها نتائج هذه الحرب، وتحديدا النتيجة العسكرية على الأرض، ستقرر لأي مشروع ستكون الغلبة، وأي مشروع سيسود المنطقة في المرحلة المقبلة. فإن رفعت حماس الراية البيضاء، افتقد محور الممانعة لحلقة أساسية من حلقاته، ومني بخسارة كبيرة. واذا ما رفعت إسرائيل غير المعتادة على حروب طويلة، الراية البيضاء، يتلقى معسكر الاعتدال ضربة قاسية قد لا تقف على حدود غزة فقط.