عبدالباقي خليفة (*)
قصص سريبرينتسا لا تنته ، في كل بيت قصة ، ولدى كل انسان حكاية ، وفي كل مكان ذكريات أليمة وأجيال تتوارث القصص . ورغم مرور 13 سنة على مجزرة سريبرينتسا 11 / 7 / 1995 والتي راح ضحيتها أكثر من 10 آلف نسمة ،إلا أن تلك القصص لا تزال تروى . فهي مأساة تتوالد وتكشف عن فضاعتها باستمرار المقابر الجماعية التي يعثر عليها تباعا ،و قوافل التوابيت التي تحمل ( بضم التاء ) في ذكرى المأساة من كل سنة إلى مقبرة الشهداء ببلوتتشاري القريبة من سريبرينتسا .. سريبرينتسا ذلك الملف المفتوح على قارعة التاريخ ، تأخذ منه ' الشرق الاوسط ' في هذه المناسبة بطرف .
قليل جدا أولئك الذين عادوا إلى سريبرينتسا ،كما أكد الكثير ' للشرق الأوسط ' ،أما البقية فقد توزعوا بين مدن البوسنة ،مثل توزلا ، وسراييفو أوهاجرو إلى الخارج ،ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية ،من بينهم ' شاهباز اسحاقوفيتش ' ( 58 عاما ) والذي هاجر سنة 1999 ، وهو من بين الناجين بأعجوبة من المجزرة الاكبر في أوربا منذ الحرب العالمية الثانية 'عدت لأشارك في الذكرى 13 لمجازر سريبرينتسا ، فما حدث يجب أن يوثق وينقل إلى الأجيال القادمة حتى لا يتكرر' وقال شهباز ' للشرق الأوسط ' إن 'مسيرة الموت ' التي قطعها مع آخرين عبر الغابات أثرت كثيرا على صحته ،فالجوع والخوف والتعب والقلق على الاسرة إبان سقوط سريبرينتسا أصابته بمرض القلب ، ولا يستطيع ممارسة عمله السابق كمهندس ميكانيكا . وأنه يذهب كل شهر إلى الطبيب للمراجعة ' .
وبالنسبة للكثيرين من الضحايا ،فإن 11 / 7 / 1995 لم تكن سوى محطة كبرى وفاصلة في صيرورة المعاناة والعذابات المتواصلة .فالكثير من سكان القرى البعيدة والقريبة من سريبرينتسا ،عاشوا التهجيروالجوع وضنك الحياة البائسة . تقول عمرة ( 28 عاما ) ' للشرق الاوسط ' ' كنت ابنة 15 عاما عندما ارتكب الصرب جريمة الابادة في سريبرينتسا ، لكن قبل ذلك عشنا حياة ملئها المرارة والرعب ' وتضيف ' هجرنا ( بضم الهاء وتشديد الجيم وكسرها ) عدة مرات وسكنا في عدة قرى بعد قريتنا ،رافي ليفا ، فكلما قصف الصرب قرية انتقلنا إلى غيرها حتى وصلنا سريبرينتسا ' لم يطل المقام كثيرا في سريبرينتسا ، فقد تعرضت للقصف منذ العدوان في أبريل 1992 واشتد في سنة 1993 وبلغ ذروته في يوليو 1995 بارتكاب أكبر وأبشع جريمة إبادة في النصف الثاني من القرن العشرين في أوربا .' كنا 7 أسر في شقة واحدة ،لم يكن هناك طعام كاف ، كنا نحصل على القليل من الدقيق فنجعل منه حساءا بدون ملح وبدون سكر وذلك طيلة فترة الحصار ' .
في منزل لأحد الأقارب تعيش 'خيرية امشيروفيتش ' ( 54 عاما ) مع ابنتيها 'أديسة '( 27 عاما ) و'أنيسة ' ( 24 عاما ) وكانت قد فقدت زوجها وولدين في سريبرينتسا. وكانت العائلة كما ذكرت ' للشرق الأوسط ' تنتقل من مكان إلى مكان منذ 1992 ، فقد نام أفرادها في الغابات منذ وقت مبكر 'كنا نقضي الليل في الغابة وفي النهار نعود للبيت وقد قتل زوجي في سنة 1993 ولحق به ابني أديس ( 12 عاما ) بعد شهرين على إثر قصف صربي حيث أصابته شظية وهو في ساحة البيت ،بعدها انتقلنا إلى سريبرينتسا ' .وقالت ' أديسا ' لقد شاهدنا أخي وهو يموت ، لم نستطع أن نفعل شيئا وكان عمري وقتئذ 10 سنوات '. وعن الايام الاخيرة في سريبرينتسا قالت 'كان هناك قصف مكثف على المدينة ،وكنا كلما اشتد القصف نلوذ بالملاجئ لكن لم يكن هناك قصف بدون دماء فالاطفال كانوا يلعبون باستمرار في الساحات وقبل أن يتمكنوا من الاختباء يخطف الموت الكثير منهم وهم يلعبون '.وعن الساعات الأخيرة في سريبرينتسا ، قالت خيرية 'اشتد القصف يوم 10 يوليو 1995 ، لم يكن لدى الجيش أسلحة فقد قامت القوات الدولية بمصادرتها بعد أن أعلنتها الامم المتحدة ' آمنة ' وكان نزع الاسلحة أحد شروط ذلك الاعلان ، ولذلك لجأ الناس للقوات الهولندية التابعة للامم المتحدة ، لكن الهولنديين لم يسمحو لهم بالدخول ، وجاء الصرب وبدأوا بفرزون الرجال عن النساء بما في ذلك الشيوخ والاطفال 'وأضافت أديسا 'كان الجنود الهولنديون يلعبون الكرة ، بينما الناس يرتعدون من الخوف وقد شاهدت شيخا يرتعش ولم يعر الهولنديون توسلاته لهم بتوفير الحماية لاسرته أي اهتمام'.
لم تفقد خيرية زوجها وابنها أديس فقط بل ابنا آخر أيضا ،كان من ضحايا الابادة سنة 1995 واسمه رامو ، وكان عمره في ذلك الحين 16 عاما . وقد عثر عليه في مقبرة جماعية وأعادت دفنه العام الماضي كما ذكرت ذلك ' للشرق الأوسط ' .
وتصف شاهو أوميروفيتش ( 65 سنة ) ' للشرق الاوسط ' البدايات المأسوية للابادة في سريبرينتسا 'في يوم 11 يوليو 1995 ،كان الجو حارا ،والخوف يخيم من كل جانب ،والناس يتوجهون أفرادا وجماعات إلى بلوتتشاري بدون اتفاق مسبق ، لكن أغلب الرجال شقوا طريقهم عبر الغابات إلى المناطق المحررة 'وتتابع 'قبل سقوط سريبرينتسا سقط قتلى كثيرون جراء القصف دون أن تتدخل الامم المتحدة وحلف شمال الأطلسي فكل واحد كان يحمل الطرف الآخر المسؤولية وكأن هناك اتفاق بينهما على ما جرى 'وعن الوضع في بلوتتشاري التي تجمع فيها الناس بعد سقوط سريبرينتسا قالت 'كان هناك خلق كثير رجال ونساء وكان الصرب يفرزون الجنسين .. كانت مشاهد مقززة ، فقد أغمي على البعض من هول ما رأوا ومن شدة الاعياء والانهاك والجوع والعطش 'وعن أسباب فرز الرجال عن النساء قالت 'علمنا فيما بعد أن الرجال وبينهم شيوخ وأطفال قتلوا جميعا وقد عثر على الكثير منهم داخل مقابر جماعية ' .
وقالت تيما ' للشرق الاوسط 'الذين راهنو على المجازفة عبر الغابات نجا منهم الكثير، لكن الذين توقعوا أنه لن يصبهم مكروه لكبر سنهم أو صغره ،أو أنهم في أسوأ الاحوال سيؤسرون ويفك أسرهم في مرحلة لاحقة تمت تصفيتهم رميا بالرصاص أوذبحا بالسكاكين من بينهم شقيق تيما ( 55 سنة ) ويدعى هاسو 'كان عمره 40 سنة ، ترك زوجة و4 أطفال بعضهم تزوج وله أطفال ' .
وعن حياة التهجير قالت تيما ( 55 عاما ) ' مشينا 4 ساعات على الاقدام حتى وصلنا داكوفيتس ثم بلوتشا ثم كلادينا ثم توزلا ، وفي كلدينيا وجدنا أناس كثيرون كلهم من سريبرينتسا بعضهم وصل في حافلات ،وكان الجيش البوسني وقوات من باكستان تابعة للامم المتحدة توزع الماء والخبز والحليب على المنكوبين ' . وتتابع ' قضينا ليلتنا في كلادينيا قبل الوصول إلى توزلا حيث بقينا هناك 4 سنوات بدون مال وفي ظروف غاية في الصعوبة ، حيث كنا نعيش على ما تقدمه لنا الهيئات الاغاثية ' . أما خيرية امشيروفيتش فقد ذكرت بأن الحكومة البوسنية أسكنتهم بعد تهجيرهم من سريبرينتسا في مدرسة في بانوفيتش قرب توزلا ( 120 كيلومترا شمال سراييفو ) وكانو 14 شخصا في صالة واحدة لمدة شهر ،ثم رحلوا إلى فوينيتسا حيث أقامو لمدة 3 أشهر قبل أن يستقروا في إليجا ،وكل ذلك في ظل ظروف مأساوية ' لم يكن عندنا مال ولا حتى أواني بل لم يكن عندنا طعام كاف '. وعن المستقبل وما إذا كن يفكرن في العودة لسريبرينتسا ' يسكننا حلم العودة والخوف في آن واحد ، ليس لدينا رجل ، لذلك نذهب سنويا لزيارة الأطلال ' وأشرن إلى أن ' هناك من عاد ويعيش حياة شبه طبيعية ، عادوا لأرضهم يزرعونها ، ونحن لدينا أيضا أرض شاسعة ،لكنها أصبحت غابات فلا يوجد من يعتني بها ' وذكرن أن العائدين ' يذهبون صيفا ويعودون شتاءا ، فالحياة لا تطاق هناك في فصل الشتاء ،حيث لا توجد مدارس ولا مستشفيات ولا طرق صالحة ' إضافة إلى أن ' المنازل لم يعاد بناؤها بعد أن تم تدميرها من قبل الصرب حتى لا يعود إليها أهلها 'ويحتاج أهالي سريبرينتسا إلى'الجرارات والآلات الزراعية والقروض لتعود سريبرينتسا كما كانت ' كما شدد الكثير ممن التقتهم 'الشرق الاوسط ' على أنه ' لا يوجد من باع أرضه ' ولا ' يوجد من نسي ما حدث ' وأكدت ' أديسا ' على أنها ستروي لأولادها ولأحفادها ما حدث .
وحول عديد الضحايا والجدل القائم في هذا الخصوص قال عمر ماشوفيتش ورئيس الهيئة الخاصة بضحايا سريبرينتسا ' للشرق الاوسط 'إن ' الارقام الاولية للضحايا تفيد بأن هناك 8،106 ضحية ،وهناك 6 أسماء يتوجب التأكد منها ،كما توجد الميئات من الاسماء الاخرى التي يجب ضمها للقائمة بعد التأكد من أنهم بالفعل من سكان سريبرينتسا 'مما يؤكد بأن الرقم المعلن والذي تسوقه وسائل الاعلام المختلفة في كل مناسبة وهو الثمانية آلاف ليس رقما نهائيا . وقال ماشوفيتش ' إن 'عددا كبيرا من سكان القرى لجأ إلى سريبرينتسا هربا من الابادة ولكنهم لقوا حتفهم بعد اجتياح القوات الصربية للمدينة في يوليو 1995 ' 'وأشار إلى أن الارقام التي تم تثبيتها في السجلات الخاصة بمجازر سريبرينتسا تمت بالتعاون مع المنظمة الدولية للبحث عن المفقودين ومنظمة الصليب الاحمر الدولي .بيد أنه أكد على أن 'السجل لن يغلق أبدا لأن هناك عدد كبير من الضحايا لم يتم الاعلان عنه من قبل ذويهم لانهم قتلوا جميعا '.وقال إن 'آلاف الضحايا لا يزالون ينتظرون إلقاء القبض على رادوفان كراجيتش وراتكو ملاديتش وغيرهم من القادة العسكريين الصرب ومحاكمتهم على الجرائم البشعة التي ارتكبوها 'وواصل ' لا يزال آلاف المهجرين ينتظرون العودة إلى بلداتهم ، فعدد الذين قتلوا في المجزرة أكبر من العدد الذي عاد إليها ،نرجو أن يرتفع عدد الاحياء وتمتلئ المدينة من جديد بسكانها 'ومضى يقول ' نحن نعلم أن المنطقة لا تزال مليئة بالمقابر الجماعية التي تضم آلاف القتلى ' .
(*) كاتب وصحفي تونسي مقيم في البلقان
نقلا عن تونس نيوز