صعب علينا .. صعب علينا كثيراً .. إن نتصور عالما لا نشعر فيه بنفحات رسول الله صلى الله عليه وسلم .. صعب علينا أن نتصور عالما لا يكون فيه صلى الله عليه وسلم .. إن البحر يلبس جلبابه الأزرق والنجوم تتجمل بأساورها والسنابل ترتفع والكواكب تدور والأطفال ينضجون ببركاته .
إنه عليه الصلاة والسلام تاريخ لا يؤرخ .. وكتابة لا تكتب .. وأكاديمية في المعرفة لا يقدر أشد الناس علما وفهما وإيمانا على مناهجها .. لذلك يجب الكلام عنه ونحن نرتدي ثياب الاحتشام والأدب .. فمن تكلم عنه .. كأنه تكلم معه .
إن الأمور التي يكلف بها المسلمون كان فيها صلى الله عليه وسلم رجلا عاديا .. والأمور التي لم يكلف بها المسلمون كان فيها خارقا .. فوق العادة.. بأمور ربه .. لقد كان الإسراء والمعراج أمراً خارقاً .. ليس فيه تشريع أو تكليف للمسلمين .. فكان أن ركب النبي صلى الله عليه وسلم البراق .. أما في الهجرة .. وهو أمر تكليف للمسلمين جميعا تصرف الرسول تصرف الرجل العادي .. دون معجزات خارقة .. لأنه لو كانت الهجرة بالبراق لما كانت في وسع كل من دخلوا في الاسلام ولاعتذروا جميعا عنها لعدم توافر البراق لهم .
في الهجرة اصطحب الرسول صلى الله عليه وسلم معه سيدنا أبا بكر وكان ضعيفا كبيرا في السن وركب الناقة ولم يركب البراق وأويا إلى الغار واستعمل صلى الله عليه وسلم التمويه . فالغار في جنوب مكة .. وهما يقصدان شمالها في إتجاه المدينة .. وكان المقصود أن لا يدع مجالا لأحد ، يتعلل بعدم الهجرة .. وكأنه يقول : إركب ولو ناقة و أصطحب ولو هرما واتخذ دليلا ولو كان كافرا بالأجر .. لم يكن مطلوبا من المهاجرين أن يقلدوا سيدنا عمر بن الخطاب الذي وقف أمام الناس جميعاً ممتطيا جواده شاهرا سيفه قائلا بأعلى صوته : " من أراد أن تثكله أمه أو ترمل زوجه أو ييتم ولده فيلقني وراء هذا الوادي فإني مهاجر" .
هنا قد يتساءل البعض حول كيفية هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيفية هجرة سيدنا عمر بن الخطاب ويقارن بينهما ويقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر سرا وسيدنا عمر هاجر جهرا .. ودون أن نستطرد في التداعيات نقول : إنها مقارنة ظالمة فلو كان سيدنا عمر هو المشرع الذي سيتبعه الجميع لهاجر سرا رحمة بالمسلمين .. إن من أراد الله ألا ينفعه بالنبي صلى الله عليه وسلم يشهده بشريته ويتجرأ على هذه المقارنة وينتهي إلى أن سيدنا عمر هو الأشجع .. لكن من أراد الله أن ينفعه بالنبي أشهده روحانيته وفهم أن النبي هاجر سرا رحمة بالمسلمين .
وفي حادث الإفك عندما تعرضت السيدة عائشة رضوان الله عليها لألسنة المنافقين سكت النبي صلى الله عليه وسلم … ولو تناول أحد الذين لا يرون من النبي سوى بشريته هذه القصة لقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن هذا الأمر مجاملة لصديقه سيدنا أبي بكر والد السيدة عائشة أو لأنه أقر بما يقوله المنافقون .. إن من يرى ذلك موصد قلبه .. بل أشد .. لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة : " يا عائشة من أقر بذنبه غفر الله له " .. فقال البعض : إنه كان يطلب منها الاعتراف والاقرار بالذنب .. هذا تحليل ظاهر .. غير إيماني .. لكن أهل الأدب في التعامل مع رسول الله يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول لها ذلك فمعناه : يا عائشة أنت ما زلت في موضع ثقتي وهأنذا أقول أمامك حديثا فانقليه عني .. ومن ثم فإننا نقرأ نحن الحديث كالتالي : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أقر بذنبه غفر الله له " . لقد سكت النبي حتى تنزل براءة السيدة عائشة من السماء .. وهذا أفضل من دفاعه عنها بكلمات قد يختلف حولها الرواة .. أما عندما ينزل القرآن فالكل يسلم بهذا الأمر .. وقد نزل قوله سبحانه وتعالى : " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل إمرئ منهم ما اكتسب من الإثم " .. إذن سماه القرآن إفكاً وليس كذباً .. والفرق بين الإفك والكذب كبير .. الكذب فيه جزء من الحقيقة والباقي إختلاق .. أما الإفك فكله من أوله إلى آخره إختلاق .. لا يوجد به جزء ولو ضئيل من الحقيقة.
فضل النبي صلى الله عليه وسلم تبرئة الله عن تبرئته .. فلا يصح أن يوضع النبي صلى الله عليه وسلم في المواضع العادية .. إنه لم يدافع عنها لأنه أراد لها أن تصبر حتى تكرم ببراءة السماء .. فلما نزلت البراءة من السماء أقبل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " اشكري الله يا عائشة فقد نزلت براءتك من فوق سبع سماوات " .. وقبل أن تجيب وقد عقدت الفرحة لسانها سارع أبواها ينهنئانها قائلين : اشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم ياعائشة " . فلما انتبهت قالت : لا أشكر إلا الله " .. لنضع هذا القول في الميزانين : الميزان البشري التحليلي للأشخاص العاديين والميزان الإيماني لمن ينفعهم الله بالنبي صلى الله عليه وسلم .. في الميزان البشري سنجد من يقول : إن عائشة كانت غاضبة من موقف النبي صلى الله عليه وسلم تجاهها ولم ترض أن تشكره بل فضلت شكر الله على شكره .. وهذا ظلم للسيدة عائشة .. أما بالميزان الإيماني فقد قال العارفون : إن السيدة عائشة رضوان الله عليها سمعت أمرين أحدهما صادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فردت على والديها قائلة : إن أمركما عندي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فانا لا أنفذ إلا ما قاله الرسول .. وهذا شدة إحترام للرسول صلى الله عليه وسلم .
هذا ما قاله أحد الصوفية وهو الشيخ عبد الله بن أبي جمرة المدفون بالبساتين بجوار عطاء الله السكندري حتى قيل والله أعلم إنه عندما كتب ذلك رأى السيدة عائشة في المنام تقول له : لقد برأتني يا ابن أبي جمرة أكثر مما برأني القرآن لأن القرآن إختلط فهمه على الناس وقولك هذا صريح حتى إنها دعت له
وقالت : أسأل لك الله ألا يقف على قبرك شقي.
إن وضع الأنبياء والمرسلين في موازين البشر العاديين فيه إعتداء على القدوة وجرأة على المثل العليا .. بمعنى أنه إذا كان الأنبياء والمرسلون كالأشخاص العاديين ومن حقنا أن نقول رأينا فيهم ونفند أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم فهذا تحطيم للقدوة .. يقول سبحانه وتعالى: " أأنتم أعلم أم الله ؟ " .. لا شك أن الله أعلم .. ولا حول ولا قوة إلا بالله .اختكم فى الله نور